السياسات الأنانية والعبث بمصائر الشعوب

أمريكا تبحثُ اليوم عن التفاوض مع طالبان، بعد أن أزهقت أرواح آلاف الأبرياء بالقصف العشوائي، وكان الأجدر اتباع هذه السياسة منذ البداية وتجنب خسائر كبيرة من الجانبين. فقرار الإطاحة بحكومة طالبان الذي اتُخِذ لما رفضت الحركة تسليم مقاتلي «القاعدة» تسبب بعد ثماني عشرة سنة أو يزيد في مقتل وإصابة جنود أمريكيين كثيرين، وتفتيت أفغانستان وتخريبها وتفكيك نسيجها القومي كدولة قابلة للتماسك.
ومن ثمة كان العراق المثال الأعنف للتدخل الغربي الأمريكي في دولة ذات سيادة. ومن المُخجل للهيئات الأممية أن تُحدثنا عن حقوق الإنسان والشرعية الدولية، وهي لم تُحاسب ولو «بالإدانة» المجاهرين بالكذب لتبرير الغزو واستمالة المجتمع الدولي، وعلى رأسهم جورج بوش الابن وتوني بلير. وكان عملهم الاجرامي الذي تعلل بحيازة العراق أسلحة الدمار الشامل فاقدا للشرعية وفقا لما يسمى «القانون الدولي»، الذي غاب وتم العبث به لمصلحة دعاة العنف وانعدام القانون من «الدول المارقة» التي لا تلتزم بأي قرارات أممية ولا تحترم النصوص والمعاهدات الدولية. وإن استصدرت قرارا من مجلس الأمن فإنها تتجاوزه لتفعل ما تُريد تماما، كما حدث في الفضاء الليبي، الذي لم يكن هدف الناتو حماية الأبرياء كما ادعى حينها، وإنما تجاوز قرار الحظر الجوي على ليبيا، إلى قصف عنيف ومُركز هدفه تغيير النظام وإسقاطه بقوة السلاح والتدمير، وهو فعل شائن خلّف الفوضى وغيّبَ الدولة لصالح ميليشيات، في مشهد يؤثر في المحيط الجغرافي الممتد للجوار الليبي.
وليس هذا المسار بالأمر المستغرب من طرف من تعود على استعمال العنف واتبع استراتيجية «القوة الخشنة» منذ فترة مبكرة، قد تكون تجلياتها السابقة حرب الخليج في أول التسعينيات من القرن الماضي، حيث روجت من خلالها الولايات المتحدة على لسان جورج بوش الأب، أنها تنصُر سيادة القانون الدولي وهي «الحامية للأمن العالمي» بعد أن تباهت بالقصف الجوي للجنود العراقيين العائدين من طريق الكويت- البصرة في اصطياد مجاني لآلاف الأرواح، التي لم تكن قادرة على فعل شيء، وليست محاكمة برادلي مانينغ، سوى ردة فعل على من كشف بشاعة الجريمة وفضح مرتكبيها، حيث حُكم عليها في 21 أغسطس/آب 2013 بخمسة وثلاثين سنة سجنا لتبليغها «ويكيليكس» عددا من الملفات العسكرية السرية، من بينها تسجيل القصف الجوي على بغداد في قتل مجاني استعراضي، تم فيه رش المدنيين بالرصاص.

انهيار الامبراطورية السوفييتية إعلان حقبة جديدة من تاريخ الشرق الأوسط، برزت خلالها الهيمنة المباشرة لأمريكا

سيناريو «فترة سلام» الذي بشّر به أغلب الخبراء والسياسيين بعد انتهاء الحرب الباردة، لم تتأكد ملامحه في الواقع أبدا، فالتدخل الغربي في البلدان تواصل، ورافقته الإطاحة بالحكومات المنتخبة. ويُعد انهيار الامبراطورية السوفييتية بمثابة إعلان حقبة جديدة من تاريخ الشرق الأوسط، برزت خلالها الهيمنة المباشرة لأمريكا، التي وجدت نفسها أمام طريق مفتوحة لإعادة تشكيل نظام عالمي يكون أحادي القطب، ولم تكتف فيه بممارسة الهيمنة على المنطقة العربية فحسب، بل امتد طموح سيطرتها على أجزاء كثيرة من العالم في غياب الخصم القوي الذي كان يمنع تفردها المُعلن. وفي الأثناء عمل الغرب من خلال منطق استعماري مُرفق بلغة التعجرف والتعالي بطريقة «سيزيف» الذي عُوقب من قبل الآلهة على خداعه، بحسب ما تحفظه الميثولوجيا الإغريقية القديمة، وأرغم على دحرجة صخرة ضخمة على تل منحدر وقبل أن يوصلها إلى قمة التل تتدحرج الصخرة إلى الوادي، فيعيد الكرة ويظل يحاول رفعها إلى القمة بدون جدوى، في صورة تُشكل رمزا للعذاب الأبدي الذي لا ينتهي. فهُم تدخلوا في أفغانستان والعراق وسوريا وليبيا على شاكلة سيزيف، ونجدهم في آخر مراحل التدمير والتخريب يعلنون عن خروجهم، لتعود تلك البلدان إلى حالات يترحم فيها شعبها على فترة الأنظمة التي كانت تحكمه.
وعدمية المصير هذه لا يُعيرها الغرب أي اهتمام ولا تعنيه الصراعات المذهبية التي تطفو بعد ذلك، أو الحروب الأهلية أو حوادث التخريب والتفجير والقتل التي تعرفها هذه البلدان، والتي كانت أسبابها الرئيسة التدخل الخارجي الذي يتباهى مهندسوه في أكثر من مناسبة بما قاموا به من قتل في صفوف من يسمونهم أعداء، خاصة بعد إعلانهم الحرب على الإرهاب إثر أحداث سبتمبر/أيلول فجر الألفية الثالثة. وكأن هذه البلدان عبارة عن «أخشاب طافية في بحر العلاقات الدولية»، أو لعلها بمثابة أوراق خريفية يتركونها تدفعها الرياح إلى مصير مجهول. إنه زمن الأنانية وضيق الأفق الإنساني الذي تتجه فيه العلاقة بين الشرق والغرب نحو مزيد من التطرف، بدل التفاهم والتعايش السلمي على قاعدة الندية والاحترام.
*كاتب تونسي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول ابوتاج الحكمة.شاعرسوري.باريس:

    لطفي العبيدي°
    صوت الوجود
    بدر تلالا
    رغم السدود
    اتمنى من الكاتب الكريم مراسلاتي
    [email protected]

إشترك في قائمتنا البريدية