المهنة الأخرى

حجم الخط
1

في أكثر من مناسبة نُثيرُ حديثا مؤلما حول مدخول الكُتّاب الضئيل الذي يجبرهم على ممارسة مهنة موازية، تؤمن لهم مدخولا جيدا يحفظ كرامتهم، ومع هذا فهم في الغالب ممتنون للكتابة ومخلصون لها أكثر من أي مهنة أخرى. فرانز كافكا كان واحدا من أولئك الذين عشقوا الحفاظ على نقاء الكتابة وإبعادها عن أن تكون مهنة يعتاش منها الكاتب، كانت له نظرة تقاسمها معه آخرون.
كافكا كان موظفا في شركة تعويضات عادية، تهتم بتعويض العمال المتعرضين لحوادث العمل، وكانت الكتابة بالنسبة له العشيقة التي يخلو إليها في وقت الفراغ، وقد اختلف معه صديقه ماكس برود اختلافا جذريا، متأسِّفا عليه لأنّه لم يشتغل في حقل الكتابة والنقد والإعلام. ولكن لماذا الأسف؟ هل لأنّ ما عاشه كافكا كان حقيقيا أكثر؟ أم لأنّ ما اكتسبه ماكس برود كان أهم في نظره مما اكتسبه كافكا؟ الأجوبة تبقى نسبية حول كليهما، وإن كنت أعتقد أن الأدب دائما يحتاج لمهنة لا تُبعد الكاتب عن النّاس وواقعهم الحقيقي.
وبين من حرصوا على الحفاظ على نقاء الكتابة، ومن اعتاشوا من حبر أقلامهم، ظلّت الكتابة في حدّ ذاتها، المهنة التي لم يُعترف بها إلا نادرا على أنّها مهنة فعلا، فقد بقيت على مدى عقود، ممارسة غامضة، متشابكة مع مهن أخرى كالصحافة أو التّدريس، ذلك أنّ أغلب الكتاب اشتغلوا في هاذين الميدانين بكثافة، فيما نسبة أقل بكثير اشتغلت في مهن أخرى مثل الطب، أو الانتساب للجيش، إذ يُحكى مثلا أن ستندال تعلّم شغف الحياة منذ انتسب إلى الجيش، فسافر خارج فرنسا، والتقى بحسناوات إيطاليات أغرم بهن، وعاش التجارب على متّسع، حتى أنه حين عاد إلى باريس لم يهمه أن يكون متواجدا في الصالونات الأدبية، كونه حقق اسما كبيرا فرض حضــــــوره في تلك الصـــــالونات بشكل دائم خلال الموضوعات المطروحة للنقاش.
ولعلّ الحكاية الأجمل هنا هي حكاية رومان غاري التي كشفت كيف حقق الصبي المهاجر من ليتوانيا إلى باريس أحلام أمه، تابعت قصّته في فيلم أبكاني حتّى الذوبان، إذ لم أعرف بهذا الكاتب إلا بالصدفة، حين قادتني قدماي إلى السينما لأحضر فيلما آخر، فإذا بي أمام كاتب كنت أجهله. لعبت المهنة أيضا دورا كبيرا في جعله كاتبا متميزا، بانتسابه للجيش. وهذا ينسف تماما الفكرة التي تتهم العقل العسكري بالجمود والخلو من اللمسة الإبداعية، كون أغلب شعرائنا العظماء في أزمان غابرة كانوا فرسانا، وقادة جيوش، ولعلّ تشوه صورة العسكري حديثة جدا في تاريخنا، لأسباب كثيرة بعضها متعلّق بالاستعمارات التي تعرّضنا لها، وبعضها الآخر تعلّق بالأنظمة التي حوّلت «العسكري» شخصا معاديا للفئات الشعبية. إن المهنة في نظري لا تسيء للكاتب من حيث نوعية إبداعه، ولكن قد تؤثر في حجم إنتاجه، فبعض المهن منهكة، وتمص المرء حتى العظم، حتى أنّ الكتابة قد تتحوّل بالنسبة له إلى ترف لا يستطيع أن يحظى به.

المهنة لا تسيء للكاتب من حيث نوعية إبداعه، ولكن قد تؤثر في حجم إنتاجه، فبعض المهن منهكة، وتمص المرء حتى العظم، حتى أنّ الكتابة قد تتحوّل بالنسبة له إلى ترف لا يستطيع أن يحظى به.

نلحظ ذلك جيدا في عدد الأعمال الأدبية التي يصدرها كتاب مرتاحون في مهنهم، إذ وحدها المهنة المريحة جسديا وماديا توفّر للكاتب فضاء للكتابة، غير ذلك يبقى الصراع قائما بشكل دائم بين الكاتب ونفسه، قد يبلغ حدّ الخصام أحيانا، فإمّا الهروب من المهنة، أو فراق محبوبته الكتابة، وهذا الخيار الصعب في الغالب، قد ينهي إمّا مسيرة الكاتب أو حياته، ففي كثير من الحالات، بإمكان الكاتب أن يعيش حياة صعلكة كاملة، بدون عمل، وبدون مدخول، لكن التوقف عن الكتابة شيء لا يمكن احتماله، ويفضل عليه الموت.
في عالمنا العربي لمع نجم الكاتب الجزائري ياسمينة خضرا، ولعلّه الكاتب الوحيد الذي انتشر في أوساطنا، رغم أنّه كاتب باللغة الفرنسية، وابن المؤسسة العسكرية التي يحترمها ويكن لها الكثير من الامتنان والاحترام رغم خروجه منها، وقد قرأت في أحد حواراته المترجمة أنه خلق ليكون كاتبا، وأنّه أدرك ذلك من ميوله الفنية والأدبية، وأن رقة قلبه لم تكن لتناسب عالم القتال الذي وجد فيه نفسه، خاصة في أوائل الفترة الحرجة التي عاشتها الجزائر أو ما يسمى بالعشرية السوداء. وتحليلي الوحيد لحالة خضرا هو أن الأدب انتصر فعلا، ولكن في الوقت نفسه لا فرق بينه وبين أرنست دوسن مثلا، الذي بقي متشبثا بالأدب حتى قتله، فالإفلات من «لوثة الأدب» غاية في الصُّعوبة، يبقى الانتصار بحمل رايته سرا كبيرا لا يمكن تفسيره، ولعلي هنا أدرجت مثالين مختلفين، لكن ألا ترون أن أوجه المقارنة معقولة؟ فالأول ولد في بيئة بسيطة، والثاني في بيئة أفضل منه بكثير، عاش الأول تحت انضباط المؤسسة العسكرية، ولم يعرف الحرية إلاّ في عقله، ومن خلال قراءاته، حتى حققها. أما الثاني فقد أفسدته تلك الحرية التي ثمل بها حتى الموت، وقد اختار الكتابة كمهنة، فترجم وألّف، ومع هذا لم يحقق ما حلم به، صحيح أن الأزمان تغيّرت، وظروف الحياة أيضا، لكن ما تفسيرنا لنجاح خضرا في الوسط الفرنسي؟ أليس ما حققه مهمة صعبة فعلا؟ ستختلف الأجوبة، ولسوف تكثر التهم، ففي عالم الأدب ليس هناك أحد راضٍ عن أحد، هم قلّة من الحالمين مثلي من يمنحون الأدب وسام الشرف، وللكُتّاب المنتصرين على قبح الدنيا انحناءة احترام، إذ طالما اعتقدت دوما أنه على الكاتب أن يفكّر في مصيره قبل الانغماس في الكتابة، والانفلات في متاهتها المليئة بالأهوال، فالأدب ليس سهلا كما يظن عامّة النّاس، إنّه مغامرة ملحمية رهيبة، يخوضها الكاتب مع نفسه أولا، ثم مع عائلته، فمجتمعه، فالسلطات الحاكمة في أبسط شيء يدلُّ على وجوده.. أليس هذا كله مقصلة تقف في وجهه منذ اختياره مهنة «تدوين الكلام الذي يدور في رأسه؟».

 إن سلاح الأدب الأول وميزته، يستمدهما من تلك المهنة التي تدرّبه بقسوة بعيدا عن أحلام المخيلة.

في عالمنا الحالي، أغلب الكتاب الذين حققوا نجاحات مشهودة، هم أولئك المشتغلين بقطاعات الصحافة والتدريس الجامعي، إذ بشكل عفوي يدخلون النسيج الثقافي ويصبحون جزءا حيويا منه، وهذا ما يجعلهم فعلا في مقدمة من يُكَافأون على نتاجهم ونشاطاتهم المختلفة، من محاضرات ومؤتمرات وورشات وغيرها، وحتى جلسات المقاهي، رغم بعدها عن الحيّز الأكاديمي والإعلامي، إلاّ أنها تسلّط مزيدا من الضوء عليهم وعلى ما يكتبون، فيصبح حضورهم المعنوي في أحاديث الأصدقاء، استمرارا لقراءة المشهد الثقافي، حتى أصبحت بعض المقاهي اليوم، نوادي ثقافية بالمعنى العميق للكلمة، وهناك ربما نجد التقييم الحقيقي للكاتب بعيدا عن «الافتراء الكتابي» الذي يلجأ إليه البعض في الصحف ومواقع التواصل الاجتماعي تفاديا لأي اصطدامات غير مرغوب فيها.
الخلاصة من كل هذا، أن المهنة الأخرى جيدة جدا للكاتب، ما دام الهدف الأول والأخير هو البقاء واقفا، وإتمام تلك المهمة التي تخالج نفسه سرا وعلانية.
تلك المهنة، هي غير ذلك، الفضاء الرّحب الذي يغذي الأدب بتوابل لا وجود لها في المكاتب الضيقة والأماكن المغلقة، بل إن سلاح الأدب الأول وميزته، يستمدهما من تلك المهنة التي تدرّبه بقسوة بعيدا عن أحلام المخيلة.

٭ شاعرة وإعلامية من البحرين

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول عبدالله الفارسي:

    شكرا أستاذه بروين ..
    رائعة دائما كعادتك ..
    نعم الكتابة ليست مهنة أبدا إنها إبداع خلاق بنبثق من روح الكاتب وأعماقه المصبوغة بالشاعرية والعطاء ..
    لكن يضطر الكثير من الكتاب إلى استخدام قلمه لإلتقاط رزقه في عالم يكافيء التافهين بسخاء .. ويحرم المبدعين بكل كراهية وعداء

إشترك في قائمتنا البريدية