التاريخ السياسي للجيش السوداني

د. الشفيع خضر سعيد

خلال لقائه، الأسبوع الماضي، مع ضباط القوات المسلحة السودانية، أكد وزير الدفاع السوداني، إن القوات المسلحة ظلت على مدى التاريخ الصخرة التي تكسرت عليها كل سهام الاستهداف، وأنها ستظل صمام أمان الوطن، ولن تسمح بانزلاقه إلى مصير مجهول أو التشظي والاختطاف. وأوضح أن الأحداث الأخيرة أظهرت انفصاما بين الأجيال الشابة والكبار داخل الأسر، ما يستوجب التواصل بينها ووضع المعالجات العادلة لمشكلات الشباب والوصول بهم إلى الطموح المعقول. وأشار إلى أن هذه الأحداث أظهرت كذلك ضرورة إعادة صياغة وتشكيل الكيانات السياسية والحزبية والحركات المسلحة للمشهد السياسي بذهنية مختلفة عما سبق، للوصول إلى حالة تضمن تحقيق الاستقرار في جميع أنحاء الوطن، وحماية المكتسبات والأعراض وحقن الدماء. وفي اللقاء ذاته جدد رئيس الأركان المشتركة للقوات المسلحة السودانية التفاف القوات المسلحة حول قيادتها، وتمسكها بواجباتها وإيمانها بالتداول السلمي للسلطة، وحماية الدستور الذي أتاح لجميع السودانيين تنظيم كياناتهم الحزبية وممارسة العمل السياسي الراشد والمسؤول في دولة آمنة ومستقرة.
هذا الحديث الطيب من قيادة القوات المسلحة يعكس شعورا وطنيا وإخلاصا لقضية البلد، وهو المتوقع من ضباط رعاهم ورباهم وعلمهم الشعب السوداني. ولكن، الحديث أثار مجموعة من القضايا والأفكار تحتاج إلى مناقشة هادئة، نبتدرها اليوم ببعض اللمحات عن التاريخ السياسي للجيش السوداني.

بدأ الجيش السوداني مشواره عقب استقلال البلاد في 1956 كبوتقة قومية تنصهر فيها كل مكونات السودان الإثنية والقبلية

بدأ الجيش السوداني مشواره عقب استقلال البلاد في 1956، كبوتقة قومية تنصهر فيها كل مكونات السودان الإثنية والقبلية. وكانت قيادة الجيش تطلب دوريا من زعماء القبائل تجنيد عدد من شباب القبيلة، مراعية لتوازن دقيق بأن يظل عدد المجندين متساويا بين القبائل المختلفة، وأن تقوم فلسفة التأهيل والتدريب في الجيش على فكرة انصهار الجميع في هذا الوعاء القومي. لكن، في أقل من عامين بعد الاستقلال أصبح الجيش طرفا فاعلا في العملية السياسية، عندما حكم الفريق إبراهيم عبود السودان لست سنوات باسم الجيش السوداني. وإبان ثورة أكتوبر/ تشرين الأول 1964 انحاز الجيش لصالح الجماهير المنتفضة المطالبة باسترداد الديمقراطية، ووقف بحزم شديد في مواجهة زملائه من الضباط أعضاء المجلس العسكري الحاكم. المشير نميري استولى على السلطة وحكم البلاد 16 عاما باسم الجيش السوداني. وبقيادة المشير سوار الذهب، حسم الجيش صراع الشعب مع ديكتاتورية النميري وانحاز إلى الجماهير في انتفاضة أبريل / نيسان 1985، وأدار الفترة الانتقالية لمدة عام. وبتخطيط وتنفيذ حزب الجبهة الإسلامية القومية، وعبر عملية خداع كبرى مورست تجاه القيادة العامة للقوات المسلحة، استولى المشير البشير على السلطة باسم الجيش في حزيران/ يونيو 1989، وهو الآن يحكم ويحسم كل الصراعات الداخلية وسط الحزب الحاكم، باسم المؤسسة العسكرية. وهكذا، ظل الجيش السوداني يمارس السياسة، بصورة مباشرة أو غير مباشرة، لأكثر من خمسين عاما من مجموع سنوات الاستقلال التي تعدت الستين، منفعلا ومنغمسا، حتى اللحظة، في كل تفاصيل الفعل السياسي في البلد. وفي هذا السياق تأتي تصريحات وزير الدفاع ورئيس هيئة الأركان المشتركة.
النص حول قومية وحياد الجيش السوداني لم يمنعه من التورط في انقلابات عسكرية ذات طابع حزبي، تقليدي أو يساري أو إسلامي. وتورط الجيش في الحروب الأهلية، الوجه آخر للصراع السياسي، والتي لا علاقة لها بعدو خارجي أجنبي، وتضع الجنود من أبناء المناطق المشتعلة في حالة تمزق داخلي لا تطاق، عندما يطلب منهم مقاتلة أبناء جلدتهم المتمردين لأسباب سياسية واقتصادية واجتماعية! أيضا، تورط الجيش، بأمر من الساسة، في قمع الاضطرابات والتظاهرات والاحتجاجات الداخلية. لكن، كل هذا التورط لم يسلب الجيش السوداني وطنيته وديمومة صحو ضميره، فكانت انفعالاته المكللة بالفخر عندما حسم الأمر بانحيازه للجماهير المنتفضة في أكتوبر/تشرين الأول 1964 وأبريل/نيسان 1985، ونتوقع أن يتكرر الانحياز ذاته تجاه الحراك الجماهيري الذي ينتظم البلاد منذ منتصف ديسمبر/كانون الأول الماضي.
صحيح نحن، في مقالاتنا المقبلة، سنركز نقاشنا حول الجيش، لكن هذا يجب ألا يمنعنا من الإشارة إلى الشرطة السودانية، والتي ظلت، طوال تاريخها وحتى مجيء نظام الإنقاذ، ملتزمة بقوميتها وحيادها عن الانتماء الحزبي، رغم احتفاظ كل فرد فيها بموقفه السياسي الخاص. وتاريخ الشرطة السودانية مرصع بجواهر انحيازها للوطن والمواطن، ويظهر ذلك جليا في المنعطفات التاريخية الكبرى مثل المعارك ضد المستعمر، وانتفاضات الشعب السوداني. جاء في التاريخ، أن رجال البوليس رفعوا في العام 1948 مذكرة للحاكم العام الإنكليزي مطالبين بتحسين أوضاع قوات الشرطة السودانية. لكن الحاكم العام ظل يماطل ويتلكأ في الرد على المطالب، حتى نفّذت لجان الشرطة إضراب البوليس الشهير، أيار/مايو 1951، مصحوبا بمظاهرات رجال البوليس المنادية بالاستقلال وخروج المستعمر من البلاد. ولاحقا تطورت مطالب رجال البوليس ليسمح لهم بتكوين جسم نقابي أو اتحاد للبوليس!. بعد هذا التاريخ الناصع للشرطة السودانية في قضايا الانحياز للوطن والمواطن، وبعد أن ظل الناس يشهدون لها بالكفاءة المهنية العالية في أداء مهامها المتعلقة بحماية الأمن وبكشف ومنع الجريمة، وبعد أن ترسخت الحقوق المدنية في العالم، وأصبحت الشرطة علما يدرس كيفية حماية وخدمة الشعب، بعد كل هذا، تثار اليوم الملاحظات حول أن الشرطة أصبحت مجرد أداة منقادة تماما لخدمة سياسات الحزب الحاكم، ويدلل الناس على ذلك ببيان قيادة شرطة إقليم كسلا الذي نفى واقعة التعذيب البشع الذي أودى بحياة أحمد خير.
أعتقد السؤال حول قومية الجيش والشرطة والأمن، وعدم خضوعها لإرادة الحزب الحاكم، أيا كان هذا الحزب، تكمن إجابته في بناء دولة الوطن، لا دولة هذا الحزب أو ذاك، دولة حكم القانون والمؤسسات والحكم الراشد، دولة التحول الديمقراطي والفصل بين الأجهزة، الدولة الوطنية التي تبنى، أو يعاد بناؤها، على أساس مشروع قومي مجمع عليه، يشارك في صياغته وتنفيذه الجميع، بما فيهم أفراد الجيش والشرطة!

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول good:

    مايسمى (الجيوش العربية)لهم تاريخ واحد أوحد..تاريخ الاجرام والقتل والارهاب والهمجية…فقط…لا تاريخ سياسي ولا تاريخ علمي..ولا تاريخ اقتصادي اجتماعي ولا تاريخ تنموي…..تاريخهم أسود على أسود ..تاريخ تاتاري همجي فاق كل الهمجيات والبربريات التي حدثت على الارض منذ موقعة قابيل وهابيل…

إشترك في قائمتنا البريدية