يشهد الفضاء الثقافي اهتماماً متزايداً بفن الرواية على جميع المستويات، ودعمت عدة عوامل هذا المد الروائي، إذ أعلنت خلال السنوات الأخيرة عن الجوائز المرصودة للأعمال الروائية، ما دفع بهذا الجنس الأدبي إلى الواجهة، وأصبحت الأسبقية في دور النشر لطباعة وإصدار المؤلفات التي تدمغ بالعلامة التجنسية الأثيرة لدى المتابعين والقراء، أزيد من ذلك فإن الاحتفاء بالرواية قد غذّا رغبة عددٍ من الأدباء الذين عرفهم الوسط الأدبي بوصفهم شعراء لمواكبة هذا التطور وبدأوا بكتابة الروايةـ كأن ما أنجزوه سابقاً في الشعر أو في أي مجال آخر لا يصلح للمرحلة التي طغت عليها الرواية ولا يضعهم على منصة النجومية
الجدل
بالطبع تتباين الآراء بشأنِ هذا التسابق والإقبال على تسجيل الأسماء في ديوان السرد، إذ يفسر البعض الأمر وفقاً لطبيعة العصر، فإن الرواية فن يلبي نهم الاستهلاك لدى القارئ الذي ينساق وراء إعلانات وحملات الترويج المكثفة على شاشات التلفزيون، ومنصات التواصل الاجتماعي. ويقارب الكاتب والروائي التونسي كمال الرياحي هذه الظاهرة في مقدمة كتابه المعنون بـ»فن الرواية» من المنطلق النفسي فيري صاحب «الغوريلا» أن الرواية تلعب دوراً تعويضياً بالنسبة للفرد العربي الذي يعاني من واقع محبط، يحلينا في سياق تحليله إلى رأي الكاتب البريطاني كولون ويلسن فالأخير يرى أن صنعة الرواية (واحدة من أكبر التعويضات الممتعة التي استطاع الإنسان أن يبتكرها) وثمة من يعزو تصدر الرواية للمشهد الثقافي إلى ما يجده الفرد في هذا العالم المتخيل من العزاء، كما لا تمانع فئة من المتابعين اختيار بعض العناوين الروائية، باعتبارها وصفة للأزمات النفسية، وسبق لمارسيل بروست أن راودته هذه الفكرة، حيث أراد محاكاة والده الطبيب ومعالجة المرضى بالسرد الروائي بدلاً من العقاقير.
وتلتفت الكاتبة والروائية لطفية الدليمي في مقدمتها لـ»تطور الرواية الحديثة» الذي ترجمته صاحبة «سيدات زحل» إلى هذا الجانب البراغماتي للرواية التي توفر علاجاً وافيا للاضطرابات الذهنية، إذ تفوق فوائدها ما جناه المريض من عقار (بروزاك (prozac كما تذكر عنصراً آخر برأيها يكسب الأفضلية للرواية وهو الطابع الخلاصي لهذا اللون الأدبي، الذي يوازي الوعد الخلاصي الذي تبشر به النظم اللاهوتية، وتكمن أهمية الرواية لدى هيرمان بروخ في تقصي روح الواقع.
الرواية فن يلبي نهم الاستهلاك لدى القارئ الذي ينساق وراء إعلانات وحملات الترويج المكثفة على شاشات التلفزيون، ومنصات التواصل الاجتماعي.
خيارات المبدع
بالاستناد إلى ما ذكر آنفاً نتفهم أن الجدل حول خصائص فن الرواية، احتدم مع تشعب ثيماتهِ وتنوع أساليبه التعبيرية، ولكن ماذا عن هيكلية الرواية والخيارات المتاحة في محترفِ صناعتها والصيغِ المتوفرة لترتيب المادة، لأن الموضوعات كما يقول ماريو بارغا يوسا لا تفترض مسبقاً أي شيءٍ، لأن استخدام الروائي وعملية تحويل تلك الموضوعات إلى واقع من كلمات منظمة، وفق ترتيب معين، عامل أساسي لاستساغة الموضوع، أو عدم استساغته في النص الروائي. طبعا أن المادة الإبداعية بصيغتها الأخيرة التي يستقبلها المتلقي هي نتيجة لعملية مضنية من المراجعة وإعادة الترتيب إلى أن يقتنع صاحبها بالشكلِ الذي تتخذه بعد التشذيب. إن رواية «الشيخ والبحر» كانت أكثر من ألف صفحةٍ كما يذكر كاتبها إرنست همنغواي، وتضمنت جميع شخصيات القرية وتفاصيل عن نمط المعيشة قبل استبعاد كل ما لا يضيف إلى تشكيلة الرواية، ولا يخدم خصوصية خطابها، كما يشير صاحب «لاتزال الشمس مشرقة) في حواره مع مجلة «باريس ريفيو» إلى إعادة كتابة الصفحة الأخيرة من رواية «وداعا للسلاح» تسعا وثلاثين مرةً. وهذا يعني أن النص الروائي يتطلب معاينة كل أجزائه، وتفصيل قماشته وفقاً لبرنامج محكم، لذلك فإن عدداً من المبدعين يؤكدون على أهمية الانضباط والعمل الدؤوب إلى جانب دور الموهبة في كتابة الرواية. ويرفض وليام فوكنر وجود وصفة معينة تمكن المرء من كتابة النصوص الإبداعية. يعترف مؤلف «راتب الجندي» بأنه قد كتب رائعته «الصخب والعنف» خمس مرات. أما ما يستهوى ماريو بارغاس يوسا ليس الكتابة بقدر ما يستمتع بإعادة الكتابة والتصحيح والحذف.
مزاج القارئ
ما تجدر الإشارة إليه حول خيارات كتابة النص الروائي هو رأي الكاتب النمساوي ستيفان زفايغ، فمن المعلوم أن صاحب «السر الحارق» من الكتاب الذين نحتوا أسلوباً خاصاً، لذا ما أن يتابع القارئ أحد أعماله حتى يتآلف مع عالمه الروائي ويستأنس بلغته وحبكاته المشوقة.يذكر أن زفايغ كان من أكثر المؤلفين ترجمة في العالم، وحولت معظم رواياته إلى أفلام سينمائية. وتتميز نصوص صاحب «الخوف» بالانسيابية والسلاسة في الانتقال بين الوحدات وتنظيمها على خط متماسك، ويتحاشى المؤلف الحشو والإطناب في مواده الإبداعية. يقدم ستيفان زفايغ في مذكراته «عالم الأمس» رؤيته حول تقنيات كتابة الرواية. موضحاً السر وراء فرادة الصياغة ورشاقة الأسلوب.
تأثيث العالم الروائي ورسم طريقة مميزة في الكتابة يفرض إدراك المؤلفِ لحساسية المتلقي، إضافة إلى تبصره بما يحافظ على ترابط أجزاء نصه.
يعتبر ستيفان زفايغ أنه مدين بنجــــاح كتبه لصفة في شخصيته، وهي عدم تحمله لقراءة كل زيادة في النص، ولا تعجبــــه الزخارف في التعبير وما يعيق نمو الرواية أو السيرة أو المناقشة الفكرية، وبالتــــالي فهـــو يكتب بمزاج القارئ الذي يرهقه ما يصفه صاحب «رسالة من مجهولة» بالصفحات الرملية، وعليه فإن روايات ستيفان زفايغ تستمد خصوصيتها من «المنهج المنتظم للحذف المطرد لكل التوقفات والاستهلالات الزائدة عن الحاجة». ولا يصعب عليه الاستغناء عن ثمانمئة صفحة من أصل ألف صفحة مخطوطة على حد قوله. وهذا ما يذكرنا بكلام غوستاف فلوبير بأن (سلة المهملات أفضل أصدقاء الكاتب).
على ضوء هذه الآراء السالفة الذكر يتبين أن تأثيث العالم الروائي ورسم طريقة مميزة في الكتابة يفرض إدراك المؤلفِ لحساسية المتلقي، إضافة إلى تبصره بما يحافظ على ترابط أجزاء نصه وحذف ما يثقِله من الاسترجاعات والإسهاب في الوصف والتكرار، ونحن نقول ذلك نتذكر ما تتبعه الروائية الفرنسية مارغريت دوراس، لاسيما في عملها المعنون «العاشرة والنصف ليلا في الصيف» إذ نادرا ما توظف الكاتبة تقنية الاسترجاع كذلك بالنسبة للكاتب الإيطالي تشيرزه بافيزه ففي روايته «الصيف» يتابع القارئ آنية زمن السرد.
قبل نهـــــاية المقــــال نعــــود من جديد إلى ستيفان زفايغ، فالأخير اقترح على الناشرين نشر سلسلة كاملة من روائع الأدب العالمي بدءاً بهوميروس مرورا ببلزاك ودستويفسكي حتى «الجبل السحري» مع حذف تام لكل ما هو زائد فيها. هنا يحق التعقيب على رأي زفايغ بسؤالٍ عن الروايات المنتفخة أو البدينة التي لا تخرج عن ثيمات مستهلكة وترى في صفحاتها مشاهد متكررة كيف يمكن إقناع أصحابها بأن الاختصار هو وجه آخر للإبداع، وأن الروايات المبنية على الإيجاز أصعب من كتابة الرواية الطويلة على حد قول الناقد سعيد يقطين.
٭ كاتب من العراق