من الغوطة الى سنجار: امبريالية العزم واللاعزم

حجم الخط
0

قبل عام ونيّف، وجدت الإدارة الأمريكية أن عقاب النظام السوري واجب، على فعلته المتمثلة باستخدام السلاح الكيماوي ضد أهالي الغوطة. حبَسَ العالم أنفاسه منتظراً حرباً أمريكية جديدة في منطقة الشرق الأوسط. من أحرجته الضربة الكيماوية الأسديّة في الشرق والغرب على خلفية التزاماته الأيديولوجية، ما لبث أن وجد ضالته مجدداً في التظاهر المحموم من أجل «السلام» وضد الهجمة الإمبريالية الأمريكية،  التي كانت تبدو «حتمية» و»وشيكة» ضد نظام آل الأسد. وفي المقابل، من كانت أولويته التخلّص من النظام السوري بأي شكل كان، استخفّ بكل حذر بديهيّ بازاء حسابات الدول العظمى، ومضى يعيّن للهجمة العتيدة المنتظرة بنك أهدافها.
ثم كان ما كان، من اعلان النظام تخلّيه عن ترسانته الكيماوية، ومن احجام الإدارة الأمريكية عن ضربه. وشيئاً فشيئاً، صارت تبدو الهجمة على الغوطة، كأنها الدفعة الأولى من عملية اتلاف الترسانة الكيماوية.
زُيّن للأمريكيين يومها أنّهم استطاعوا تحصيل نتائج الحرب من دون حرب، بانتزاعهم الترسانة الكيماوية التي افتدت نظامها مرّتين، مرة بأنه استطاع استخدامها لحماية رأسه دون أن يُقطع هذا الرأس بعدها، ومرة بأن فكّكها بالتزامن مع تفكّك الثورة السورية نفسها، هذه الثورة التي يمكن القول أنّها، من بعد سلسلة من الخيارات الخاطئة التي جنحوا اليها، أصيبت بانشطار عميق، مرتبط بشكل وثيق بمصاب أهل الغوطة: فمن كان يعوّل على تدخّل دولي بعد تخطي النظام للخط الأحمر الكيماوي بات عليه أن يدفع ثمن فشل رهانه، ومن كان يصرّ على جوهرية المعركة مع الأمريكيين حتى في عزّ دعمهم الرسميّ للثورة السورية لم يعد بمستطاعه أن يحفظ هذا المخزون المعادي للإمبريالية في بوتقة وطنية من أي نوع، وصارت حيلته أقلّ أمام التيار الذي يشهر بشكل واضح عداءه للفكرة الوطنية من حيث هي كذلك، وليس فقط للحدود المرسومة بالمبضع الاستعماري.
بهذا المعنى ما يحدث في العراق أولاً وفي سوريا ثانياً هذا الصيف هو مرآة لما حدث في سورياً أولاً وفي العراق ثانياً في الصيف الماضي.
في الصيف الماضي، نظام استبدادي، له سمة فئوية تضخّم طابعها النافر، بعد تدخّل ميليشيات مذهبية عراقية ولبنانية لنجدته، يقصف تخوم العاصمة السورية بالسلاح الكيماوي. تحشد أمريكا لمعاقبته، ثم يوظّف النظام طبول الحرب لصالح تسوية تقضي بابطال سلاحه الكيماوي بعد أن استُعمَل تماماً كما لو أنّه لم يُستَعمَل. واقعة أنّه استُعمِل تضيع: تلغي نفسها بنفسها.
هذا الصيف، تنظيم «الدولة الاسلامية» الكاسر للحدود العراقية السورية، ينتقل من فوزه بالمناطق العربية السنية في وسط وشمال العراق الى استباحة مناطق حساسة في شمال العراق، مضطهداً الأقليات الدينية والإثنية من مسيحيين وايزيديين وصابئة وشبك وتركمان، فتجد ادارة الرئيس باراك اوباما أن عليها في نهاية المطاف أن تحدّد له خطاً أحمر، بل خطين: الحؤول دون اجتياحه لأربيل واقليم كردستان، والحؤول دون اجتياحه لبغداد. الرابطة هنا تختلف: لا يمكن لـ»داعش» أن تحذو حذو النظام السوري الذي اقترض من «ما بعد الخط الأحمر»، من خلال استخدامه للسلاح الكيماوي، كي يعود فيسدّد من هذه الترسانة نفسها، كمدخل لتسكين العدائية الغربية له، وجعلها على الأقل «غير نافعة عملياً» للثورة.
تختلف الرابط اذاً، لكن ليس بشكل مطلق: فعلى قدر «تكيّف» داعش مع هذه الضربات ستجيء التداعيات. فاما أن تتعلّم «داعش» العيش مع «الخطوط الحمر» المحدّدة لها كلّما تجاوزت منطقة سوادها الأعظم من العرب السنة الى غيرها من المناطق، ولهذا تبعات خطيرة، ليس أقلّها تحكيم داعش على العرب السنة في العراق وشرق سوريا. وإما ان تظهر «داعش» محدودية الأثر الميداني لهذه الضربات، فتحقق توسعا يتجاوز المدى العربي السني الى ما هو واقع شماله وجنوبه. ولهذا تبعات خطيرة أيضاً، من شأنها أن تجسّد، في الواقع الكليّ. الشهوات «الإباديّة» غير المحقّقة في المشرق الا جزئياً في السنوات الماضية.
بين الصيفين، ربّما اقتنع البعض بمفارقة من قبيل انه، اذا أحجمت الامبريالية عن الضرب كان الأمر كارثياً، واذا بادرت الامبريالية الى الضرب جاء الأمر أيضاً كارثياً. مثل هذه المفارقة يمكن أن تُلاك للقول أن الشرّ في الامبريالية سواء أحجمت أو هاجمت، أو للقول أن الشرّ منتج محليّ واقليمي بصرف النظر عن احجام الامبريالية أو قيامها. في الواقع، الاكثار من التوقف أمام «المفارقات» يأكل من الشروط الأولى للتعاطي مع هجمات مزمعة أو مسدّدة تقوم بها قوة عظمى على بعد آلاف الكيلومترات من حدودها الترابية. من هذه الشروط الادراك، بأنّ هذه القوّة ليست مطراً يحتجب فيستسقى، وأنّه مهما اختلفت أنماط ومواضع استخدامها في السنوات الماضية، الا انه ثمة مشترك أساسي لا يمكن تضييعه. هذا المشترك هو مفهوم «الامبريالية». ناله من الابتذال، المتبني له او الجاحد به، الكثير، في العقود الماضية. لكن اقل ما يُقال فيه، ان تعدّد أنماط ظهوره، من الاقبال على تسديد الضربات، الى الاقبال دون عزم، والعزم دون اقبال، كما تعدّد عواصمه، في عالم لم تعد فيه الامبريالية «أمريكية فقط»، ولو بقيت فيه «أمريكية بالدرجة الأولى»، ولا تبدّل في ذلك بشكل نوعي، جميع تردّدات واحجامات اوباما وحروبه المقتضبة.
من الغوطة الى سنجار: أي كلام لا يعود فيأخذ مفهوم الامبريالية بعين الجد لا يعوّل عليه. ابتذال هذا المفهوم على يد المستهلكين برخص لـ»نظرية المؤامرة»، كما على يد المراهنين على هذه الضربة وعلى انعدام حظوظ تلك، هو تحدّ اضافي من أجل انتشاله كمفهوم من الوحل. الامبريالية تبقى امبريالية حين تحجم من بعد عزم، وحين تضرب من دون عزم. النموذج الأول كان في الغوطة. النموذج الثاني في سنجار، ولها كذا نموذج آخر. اذا كان من غير الممكن مؤاخذة بيئات أهلية لاستفادتها من لحظة في هذا الايقاع، احتماء واسعافاً من خطر تنكيليّ محليّ أو اقليميّ، فان التضامن مع المضطهَدين لا يكون بافتعال التماهي مع حالتهم في ظلّ خطر يداهمهم عينياً. الحس النقدي السليم لا يكون أبداً بتقسيم الضربات الأمريكية الى واحدة نؤيدها، وأخرى نندّد بها. صحيح ان التنديد في كل وقت ليس بديهياً، وكذلك التأييد. لكن ما يفترض ان يكون بديهياً أكثر هو تلك الفضيلة الاسبينوزية التي اسمها: الحذر. في المثال الذي أمامنا، الضربة الأمريكية يمكن أن تكون منشطات لداعش تطلق الاخيرة بعدها العنان لمخيلتها الابادية، ويمكن أن تكون اعترافاً بداعش كأمر واقع اذا التزم بخطوط حمر جغرافية، ويمكن أن تكون امعاناً في تغليب مذهب على آخر، وليس هناك شيء من هذه الاحتمالات يمكن أن يقترن بمفردات «الحداثة والديموقراطية» سوى أنه، في حال الاضطهاد الذي تمارسه «داعش» للأيزيديين مثلا، فانه، وبخلاف ما يتوهمه المثقف الليبرالي النمطي، تلعب «داعش» شخصية «المبشّر بالحداثة» في مواجهة «التقاليد الموروثة» الأيزيدية. وهذا لوحده كفيل بتذكيرنا بأن خوض الصراع الايديولوجي مع ما تمثله داعش من موقع مجابهتها بالحداثة، يغفل ان ما يكابده الايزيديون مثلاً هو الطابع الحداثي لداعش، بل الطابع الداعشي اللابس لكل حداثة. في هذه الحالة العينية التي أمامنا، الدفاع عن حق الايزيديين في العيش يعني الدفاع عن حقهم في «التقليد» ضد «الحداثة».

٭ كاتب لبناني

وسام سعادة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية