كلما ظهرت وسيلة إعلامية جديدة شاع الظن بأن الوسيلة الأقدم منها سوف يكون مآلها الزوال التدريجي. هذا هو الظن الشائع، على الأقل في المرحلة الأولى من الانبهار الجماهيري بالوسيلة الجديدة. أما الثابت فهو أن هذا مجرد ظن خاطىء، ولو أنه كثيرا ما يتخذ، لدى المتحمسين للجديد، صيغة التنبؤ التقدمي الجازم. فقد أثبت تاريخ القرن العشرين أن الإذاعة لم تؤدّ إلى موت الجريدة، وأن التلفزيون لم يؤد إلى موت الإذاعة، وأن ثلاثتها لم تؤد إلى موت السينما. كما أن تجربة العقدين الأولين من هذا القرن أثبتت أن الانترنت، رغم سطوته الكاسحة ورغم قلبه للموازين في السياسة والاقتصاد ورغم زعزعته للعلاقات الاجتماعية واستحواذه على مناح متعددة من الحياة الشخصية، لم يؤد إلى موت أي من الوسائل الإعلامية الأقدم. وحتى ما عمّ من تنبؤات حول مصير الجريدة الورقية، باعتبارها الضحية الأولى للانترنت، فقد بدأ يتبين بالتدريج أنه مجرد «أنباء موت مبالغ فيها». صحيح أن الانترنت هو السبب الأول لأزمة الجريدة الورقية، أي إصابة سوقها بالتقلص واضطرار كثير من العناوين إلى الإغلاق، ولكن الأزمة ألزمت صناعة الجرائد بمراجعة منطقها وطرائقها واقتصادياتها وبسرعة التأقلم مع المتغيرات سعيا للتوصل إلى نموذج أعمال جديد منتج مربح. وقد بدأت تتزايد المؤشرات، في البلدان العريقة في الإعلام، أن صناعة الصحافة توشك أن تستقر على نموذج جديد ضامن لقدرتها على البقاء.
بل لعل التطور الأجدر بالنظر هو أن الانترنت ذو وظيفة مزدوجة في علاقته بالإعلام. ذلك أن الانترنت يمثل بالنسبة لفئات الشباب المصدر الأول، وربما الوحيد، للتواصل والإعلام والتسلية، وربما أيضا للمعرفة. إلا أنه يوفر، بالنسبة للفئات غير الشبابية، مجالا إضافيا لانتشار الوسائل الإعلامية الأقدم، حيث أنه يفسح مجالا لا محدودا لقراءة الجرائد، والاستماع إلى الإذاعات، ومشاهدة التلفزيونات إضافة إلى مشاهدة الأفلام السينمائية. كما أنه يمنح ميزة المرونة في استهلاك المنتج الإعلامي، حيث لم يعد القارىء مضطرا إلى مطالعة المقال أو الخبر في يوم أو وقت محدد، وإنما يمكنه الرجوع إليه متى ما أراد. كما أن المستمع أو المشاهد لم يعد ملزما بالجلوس قرب المذياع أو أمام التلفاز في يوم أو وقت محدد لسماع أو مشاهدة البرنامج الذي يهمه، وإنما يمكنه فعل ذلك حسب الرغبة والحاجة لأن كل هذه المنتجات والمواد قد صارت محفوظة متوفرة على الدوام.
أثبت تاريخ القرن العشرين أن الإذاعة لم تؤدّ إلى موت الجريدة، وأن التلفزيون لم يؤد إلى موت الإذاعة، وأن ثلاثتها لم تؤد إلى موت السينما
لهذا كله أحسنت اليونسكو صنعا عندما قررت، قبل ثمانية أعوام، إعلان اليوم الذي بدأ فيه راديو الأمم المتحدة البث عام 1946، أي الثالث عشر من شباط (فبراير)، يوما عالميا للإذاعة. وقد كان شعار هذا العام هو مساهمة الإذاعة في نشر ثقافة الحوار والتسامح والسلام. إذ إن الحقيقة التي قد لا ينتبه إليها من ينعمون بالعيش في بلدان غنية أو متقدمة هو أن الإذاعة (وليس التلفزيون أو الانترنت) هي الوسيلة الإعلامية الأكثر انتشارا والأغلب استخداما على المستوى العالمي، حيث أن هنالك مناطق كثيرة في العالم الثالث لا يمكن فيها للسكان، وخصوصا الفقراء والأمّيين والمهمشين وذوي الإعاقات والنساء المستضعفات، استخدام أي وسيلة إعلامية أخرى سوى الراديو. وقد لمست شخصيا خلال زيارات صحافية إلى بلدان إفريقية فقيرة مثل بوركينا فاسو والنيجر ومالي، وحتى في بلدان نامية نسبيا مثل ساحل العاج والسنغال، أن الإذاعة هي “ملكة الإعلام”هناك. بل إن اللافت للانتباه حقا أن مملكة الإذاعة لا تقتصر حدودها على العالم الثالث، فقد أثبتت أحدث الدراسات أن الإذاعة هي أكثر وسائل الإعلام انتشارا حتى في الولايات المتحدة، حيث يستمع إليها أكثر من 228 مليون نسمة كل أسبوع، هذا بالإضافة إلى 87 مليون مستمع على الانترنت!
الإذاعة ملكة الإعلام. ملكة شعبية تمشي في الأسواق. تجلس أرضا وتأكل خبزا. هي أقرب الملوك والملكات إلى الناس لأنها الأقدر على التفاعل مع المشاغل اليومية والتعبير عن الثقافات المحلية في الأطراف البعيدة سياسيا عن العين، البعيدة اقتصاديا عن القلب والجيب.
كاتب تونسي