خلافا لما دعا إليه سقراط حين قال «إعرف نفسك بنفسك»، لا يزال الطريق أمام الطبقة الوسطى طويلا لتعرف نفسها بنفسها. وعلى الرغم من أن الطبقة الوسطى تمثل عصب التحول الديمقراطي للبلدان، أكانت تحكمها أنظمة ديمقراطية أصلاً، أو أنظمة موصوفة بالاستبدادية، أو ـ إن تعمقنا في علاقة الحكم بالأيديولوجيا ـ الشمولية.
على ذلك شهد تاريخ أمريكا اللاتينية، على سبيل المثال لا الحصر، وعلى ذلك أيضا شهد تاريخ شرق أوروبا ووسطها، كما ظلت الطبقة الوسطى على نطاق واسع ايضا معيارا للحراك الثوري العربي.
التحول الديمقراطي، الحكومة الانتقالية، الحل السياسي، مصطلحات يتم تداولها في وسائل الإعلام ، ويدور معها الحديث المتواصل عن المعارضة مع تكثيف إطلالات المعارضين على الشاشات. هذا مشروع نؤيده من دون تحفظ، لكن هناك سؤالا أقل طرحا نؤيد من يطرحه أيضا: كيف نصنع معارضة؟ أو بعبارة أخرى، كيف نصنع النظام الذي سيأتي بعد «إسقاط النظام»؟ حين رددت الشعوب العربية شعار «الشعب يريد إسقاط النظام»، أشك في أنها قصدت إسقاط التعليم والصحة والاقتصاد، والخارجية والدفاع والمواصلات، ووسائل الإعلام والعلاقات مع البرلمان، والرياضة والفنون ودور النشر…. أكيد لا. الشعب أراد وضع حد للفساد والمحسوبية وقمع الحريات الفردية ومنع التعددية وتكريس منطق الانتفاع من خيرات البلاد على حساب المصلحة العامة، لكن بعد أن «سقط النظام» لم أجد عربيا واحدا قال لي: «أخيرا، تحقق الحلم». كما لم أجد فرنسيا واحدا، في ديمقراطيتنا الموصوفة بالعريقة، قال لي الكلام ذاته بعد أن تحقق حلم الرئيس الشاب بالوصول إلى سدة الحكم.
ليست البلدان العربية فقط هي التي تعيش أزمة الطبقة الوسطى وتتساءل يوما بعد يوم، عما إذا كانت الأخيرة قادرة على قيادة البلاد، الأزمة أزمة عالم بالكامل يدرك تمامًا أن الطبقة الوسطى شرط لا غنى عنه لإنجاز الاستحقاقات الأساسية للتحول الديمقراطي، لكنه أيضا عالم لا يتصور المنظومة الديمقراطية أبعد مدى من تأسيس أحزاب وإقامة دستور وإجراء انتخابات.
تواجه الطبقة الوسطى أكبر تحدياتها وهو قيادة الثورة الفكرية القادرة على تثبيت دعائم الديمقراطية الحديثة
من ثمة انعكاسات موجعة؛ تذمر الشعب من غياب الحوار الاجتماعي مما يجبر القياديين على تدارك الموقف في آخر لحظة، كما حصل في تونس، حيث أطلق للتداول تعبير «الحوار الوطني» بعد الثورة، ولوحظت فيه خطوات لافتة فعلا، أو عبارة «النقاش الكبير» الذي فتحه الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون في المحافظات الفرنسية لمواجهة مآخذ متنامية على طبقة سياسية مقطوعة الصلة بالشعب ومطالبه، لكن كان من المفروض لمثل هذه الخطوات المؤسسة للديمقراطية التشاركية، أن يتم الإعداد لها سلفا، حتى تصبح ممارسة اعتيادية تكفلها الدساتير، وهو ما لم يحصل.
في فرنسا مثلاً، ثمة من يدعو إلى إقامة جمعية شعبية موازية للبرلمان، يناقش فيها المواطنون لا ممثليهم، احتياجات ومشاريع وتطلعات، لا قوانين وبنودا وإجراءات، وهذا لم يتم. يرى كثيرون أن هذا الإخفاق راجع لخلل هيكلي مكمنه إخفاق أعمق، إنه إخفاق الطبقة الوسطى في إدراك مسؤوليتها من جهة، لكن من جهة أخرى أيضا في تحويل هذه المسؤولية إلى عنصر مؤسس لديمقراطبة حديثة. في مقال صدر في جريدة «الأهرام» بتاريخ 12 أكتوبر
2011، أي ثمانية أشهر بعد رحيل الرئيس مبارك، كتب الدكتور وحيد عبد الحميد ما يلي: «الواضح أن الطبقة الوسطى في مصر الآن ليست طبقة لذاتها بمعنى أنها لا تعي ذاتها الكلية وما يقترن بها من مصلحة عامة.» هنا، عبارة «الذات الكلية» مهمة جدا، تشير إلى الهوية السياسية المنشودة للطبقة الوسطى، التي لم تتمكن من اكتسابها بعد. والتفسير واضح «المشكلة الأكبر ـ يواصل الدكتور وحيد عبد الحميد – هي أنها لا تبدو حتى طبقة في ذاتها في معظم الأحيان، بل تكاد أن تتحول إلى فئات مبعثرة يتفاوت الوعي في داخل كل منها بدوره في اللحظة الراهنة، «فئات مبعثرة.. لا تبدو حتى طبقة في ذاتها…
الخطاب واضح: يتوجه للصحافي، للجامعي، للمحامي، للقاضي، للمصرفي.
والسؤال واحد: أين أنتم من التحول على المدى البعيد؟
و»تفاوت الوعي» في داخل كل من هذه الفئات المبعثرة إنما هو مقياس الحرارة ذاته الذي تحتاجه شعوب العالم لتدرك أن لا شيء يمكن أن يتم لها من دون أن يولد من رحمها. نتفق مع توصيف ينطلق من مبدأ أن «على الطبقة الوسطى أن تتجاوز أزمتها وتعي مصلحتها الكلية وتقوم بدورها» ولا يمكن ان يكون هذا التشخيص محصورا في المشهد المصري، فهو لصيق بالطبقة الوسطى ككل في كل دول العالم. ولكننا في المقابل، نختلف في ما يلي: «ربما يجوز القول إن الشرط الذاتي لفاعلية دور الطبقة الوسطى قابل للتحقيق حين يسمح الظرف الموضوعي العام بذلك، كما حدث في لحظة الانتخابات الرئاسية». لا يمكن للطبقة الوسطى أن تنتظر «الظرف الموضوعي العام» حتى تعد العدة لخوض استحقاقات تتجاوز الطابع الانتخابي من بعيد.
تواجه الطبقة الوسطى في الوقت الراهن أكبر تحدياتها وهو قيادة الثورة الفكرية القادرة على تثبيت دعائم الديمقراطية الحديثة، فإن لم تستعد لها، لن تخفق في أداء دورها فحسب، بل لن يعدو أي تحول يدعوه البعض ديمقراطيا كونه تحولا سطحيا. والأيام بيننا.
باحث أكاديمي وإعلامي فرنسي
صدقتَ. و هذا سبب تخبّطنا منذ اندلار “الرّبيع” الذي لم يُشرِق بعد. شكرا