اغتيال بائع السكاكر

يعد اغتيال الروائي علاء مشذوب المثقف العراقي والناشط المدني والسياسي النظيف علامة على وعورة الطريق السالك نحو الحرية والعدالة التي ينشدونها في العراق، ويكشف الاغتيال السياسي خطورة الكلمة الصادقة وقدرتها على الفعل المناهض للعسف والقتل ومصادرة الحريات.
الروائي علاء واحد من الأسماء التي آمنت بفكرة الحرية، وكرّس جهده وكتاباته الصحافية والروائية في سبيلها، وإذا كان مصير حياته مأساويا فإن أفكاره وأحلامه ستبقى تطرح أسئلته عن جدوى الحياة ودور الإنسان فيها. يتضح ذلك في معظم رواياته وكتاباته وسنتحرى ذلك في روايته «بائع السكاكر» الصادرة عام 2018 عن دار نينوى.
وزع الروائي أحداث روايته على عناوين دالة على أحداثها: (بداية النهاية ذكريات دامعة، طفولة سابحة فوق صينية سكاكر، مرحلة البلوغ وذروة الثورتين، وأد الأحلام، أول الحلم واغتيال الروح، بداية الانهيار، ثورة الجياع، نهاية البداية الأولى) وهي عناوين تشي بعالم مضبب «كنا فيه مثل نجوم خافتة» كما يصرح السارد.
تسرد الرواية سيرة حياة السارد (متوكل) الذي يسكن مدينة كربلاء، ليكون تاريخ ولادته متزامنا مع ولادة الكاتب علاء مشذوب (1968) وكذلك مكان الولادة الذي يقارب مكان ولادته، في أحد أحياء كربلاء، كما أن بداية الرواية تشي بالمشابهة بين السارد والكاتب في نزعة حب الكتابة، حيث يصرح السارد في أكثر من صفحة في الرواية عن كتابة القصص وشروط كتابتها من خلال شخصية الدكتور حامد الحامدي أستاذه في الكلية، كما يعلن رغبته في تعلم تقنية (المونتاج) السينمائي وتوظيفه في كتابة القصص، في بداية الرواية.

بداية النهاية ذكريات دامعة، طفولة سابحة فوق صينية سكاكر، مرحلة البلوغ وذروة الثورتين، وأد الأحلام، أول الحلم واغتيال الروح، بداية الانهيار، ثورة الجياع، نهاية البداية الأولى.

تضم أحداث المدينة وجوها تتقابل فيها وجوه أسرة السارد (متوكل) مع سكان المدينة، فالأحداث تطيح بالعائلة وبالعوائل الأخرى في المدينة، وكأن سرد سيرة عائلته هو سرد متواصل لسيرة حياة مدينة كربلاء. تبدأ الرواية بتصميم السارد على ترك مدينته وأهلها، بعد أن يشرع بكتابة سيرته وسيرة مدينته «من أجل أن أنزع كل ما يربطني بالمكان، وفي الوقت نفسه ليكون جزء المرآة الذي كنته (ليمثل) هموم وآلام كثير من أفراد الشعب العراقي»، لكن أحلام بطله/ أحلام الكاتب في الهجرة تقبر إلى الأبد بعد تعرض الروائي إلى التصفية الجسدية، وسط أكثر الأماكن ازدحاما في مدينة كربلاء، بدون أن يجد من ينقذه أو يسهم في إلقاء القبض على الجناة.
ويهمنا في تأبين الروائي الراحل أن نقرأ تداعيات أفكاره وخطابه التحريضي المباشر للمتلقي في هذه الرواية، التي ضمنها أسئلته الممضة وأفكاره عن الحياة التي يحلم بها، وهذه الرواية شهادة فنية لسيرة حياة مدينته كنموذج للمدن العراقية الأخرى، لكنها تمتاز عنها بوصفها مدينة مقدسة، يزورها الملايين من الناس للتطهر وغسل الذنوب، الأمر الذي يثير التأمل والتفكير والأسئلة المحيرة لدى سارد الرواية «كثيرا ما أتأمل المنائر والقبب الصفراء، واسأل حلمي لماذا لا تغني كل الأدعية عن جوع، ولا تستر كل التسابيح والتضرعات عريانا». ووفق ذلك يرسم مشاهد كثيرة مبثوثة في الرواية تكرسها الحروب الدامية المستمرة، فتنتج حممها: المجانين والخرسان والعرجان والبرصان وكل المعاقين والجياع والمرضى النفسيين، وهم يملأون الشوارع، وكأن الشارع قد تحول إلى مصحة نفسية، ولكن «لا رجال سالمون إلا عند جبهات القتال، لا نساء عفيفات إلا خلف أسوار الجوع، لا أطفال يلعبون إلا واليتم دليلهم».

الشكل الخلخالي في الرواية

تتخذ الرواية ـ كما يشير ساردها في الصفحة الأولى منها ـ شكل ( خلخال امرأة بدوية، له رأسان» لتقرأ من البداية «على أنها نهاية الأحداث « وصولا إلى النهاية ثم تقرأ من النهاية «على أنها بداية الأحداث» وصولا إلى النهاية أيضا. ويمثل الشكل (الخلخالي) دائرة مغلقة تتناسل الأحداث فيها لتنتج صورة مكررة أساسها العسف والتسلط والخوف الذي يغلف هذا الشكل ويديم وجوده، من خلال عينات من كوابيس الحياة المعاشة، أو من خلال سيرة تاريخ المدن العراقية وهي تبدأ ولا تنتهي، لأنها صورة للموت والجفاف والعنت، ممثلة بتاريخ طويل وجائر يظهر فيه رجال مثل (حمورابي ونبوخذ نصر كرجال حرب ووقود نار، نمر على الحجاج والقعقاع كنذر شر يتأبطون عند ساح الوغى سيوف الحرب» ليكون هذا الواقع «هو الطريق إلى الموت» تبلغ فيه القسوة حد أخذ ثمن الإطلاقات النارية التي ثقبت جسد أخيه البريء «كانت الرصاصات لا على التعيين تصيب قلب أخي مرة وأخرى رئته ورأسه وعينه، لم يكن أحد يعرف عدد الرصاصات، لكنهم عندما طلبوا ثمنها تبين عددها عند أبي الذي أصبح مالك الحزين».
أما ما يمثل احتمال هذه الحياة ومكابدة قسوتها، فيسوغها الروائي بحضور الأحلام البسيطة التي تمثل لديه «السبيل الوحيد إلى الحياة»: أحلام البحث عن الأب النموذجي «الأب الحلم الذي طالما راودني بطلعته الباسمة وأسلوبه الحنين بعيدا عن الزمجرة والغلظة في القول والضرب، بالفعل الذي يرتدي بذلته الصباحية بعد حلق ذقنه على أنغام فيروز، ويمسك الشوكة والسكين يقطع البيض المسلوق ويشرب فنجان القهوة وهو يطالع صحف اليوم»، وأحلام البحث عن أم جميلة ترتدي التنورة وأخت «تمارس الحلم الجميل بوصولها إلى مراتب العلم الأولى». كما يحلم بناس يزرعون في كل مساء «حلما بغد خال من الموت تجف فيه منابع الحرب، يتأملون فيه كثيرا بغد يعلو فيه صوت الفرح».

«إنني ذاهب مع الذاهبين إلى حيث اللاعودة» واضعا حياته في طريق الغربة والمجهول، مغيبا جسده في طريق اللاعودة، التي تشبه الموت.

ذلك الحلم الذي يتوج سيرة حياة غائرة في التعب منذ الطفولة حين يشرع ببيع أكياس النايلون وصنع الطائرات الورقية لكي يبيعها ثم تكليل طفولته بحمل صينية السكاكر «بيدي الصغيرة ككف عصفور أقبض على عملتي الورقية التي قدرها ربع دينار، لا أذكر لونها مارا قرب كف العباس الأيسر واشم رائحة الدم»، تلك الرائحة التي تبقى ملازمة لحياته البائسة والمتأزمة بالنكبات والحروب. وستكون رائحة دم الكاتب المسفوك في منطقة بكربلاء مكتظة بالناس، هي نهاية رحلة حياته القاسية وأحلامه المؤجلة التي بددتها الإطلاقات الغادرة (ثلاث عشرة إطلاقة) ربما تكون متساوية مع عدد الإطلاقات التي قضت على أخ السارد بتهمة الخيانة وهو بريء من كل ذلك.
يختتم سارد رواية «بائع السكاكر» حياته أيضا بجملة دالة على الغياب الأبدي حين يقول لأخيه الأصغر في آخر سطر من الرواية: «إنني ذاهب مع الذاهبين إلى حيث اللاعودة» واضعا حياته في طريق الغربة والمجهول، مغيبا جسده في طريق اللاعودة، التي تشبه الموت.

٭ كاتب عراقي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية