منذ فترة قليلة، صدر حكم بالسجن لمدة خمس سنوات على الناشر والموزع المصري خالد لطفي، بسبب توزيعه كتابا لمؤلف إسرائيلي، صدر أصلا مترجما في لبنان، وتم تداوله بشدة قبل أن تصدر الطبعة المصرية. وعادة ما تتم تلك الطبعات في مصر، لكثير من الكتب التي تعد رائجة، وذلك لتقريبها من القارئ المصري، وأيضا لسبب اقتصادي، حيث ينخفض سعرها كثيرا، عن تلك التي تطبع خارجا، ويتم جلبها إلى مصر.
لم أطلع على الكتاب حقيقة، وفقط هنا أتحدث عن مبدأ حظر الكتب أو منعها أو المبالغة في تجريم ناشريها بحيث يواجهون عقوبات لا تشبه الكتابة أو الإبداع، أو المساهمة في نشر المعرفة. ولطالما نوهنا إلى أن نشر الكتب مهما كانت مواضيعها ليس أمرا ضارا على الإطلاق، في زمن أضحى القارئ فيه هو الناقد الأكبر، والمتلقي الواعي الذي يأخذ ما يراه مناسبا ويلفظ ما يراه غير مناسب لوعيه. بمعنى أن زمن سيطرة الرقابات على الوعي ينبغي أن يكون انتهى، وتلك الرقابة التي تحدد للناس الكتب التي ينبغي قراءتها، والأفلام السينمائية التي ينبغي مشاهدتها، والدراما التي يتابعونها، من المفترض أن لا تكون موجودة.
نحن في زمن لم يعد ثمة شيء خاف على أحد، ولن تستطيع أي سلطة مهما أوتيت من حزم أو حماقة، أن تمنع غليانا يحدث ضدها، من الرشح خارج المكان، أو هتافات حتى لو كانت بسيطة جدا، من أن تصل إلى أسماع الدنيا كلها.
لذلك طالما انضممنا إلى من ينادي بعدم حظر الكتب في المعارض والمكتبات، لأن هذه الكتب موجودة في كل مكان آخر ويسهل جلبها، ولأنها في النهاية تسبح داخل بحر الإنترنت العريض ويحصل عليها من يريد الحصول عليها بسهولة شديدة. والكتاب الذي وزعه الناشر المصري أو أعاد طباعته، موجود في ذلك البحر، وسيصبح موجودا في الدنيا كلها، لأن وراءه قضية، ولأن فيه موضوعا أثار لغطا، ولأنه في النهاية كتاب ممنوع، لا بد سيصبح مرغوبا حتى للذين لا يعرفون شيئا عن القراءة.
أذكر منذ سنوات أن ثارت ضجة كبيرة على رواية لحيدر حيدر، رواية تدور أحداثها في الجزائر كما أذكر، وكنت اقتنيت نسخة منها أثناء زيارة لي إلى الشام منتصف التسعينيات من القرن الماضي، وقرأتها وأنا هناك، ولم أنتبه إلى شيء غريب أو مرعب أو يخيف القارئ، ويستوجب منعها. رواية فيها زخم” حيدري”، ولغة أخاذة، وأسلوب مغر للقراءة، وربما بها بعض الإشارات التي يمكن تفسيرها سلبيا لمن أراد التفسير السلبي، لكن في المجمل هي رواية ناضجة.
الذي حدث أن هناك من سار في اتجاه سلبي وأحدث مشكلة للكاتب والناشر والموزع، والذي حدث أيضا أن عشرات الآلاف من الناس سمعوا بتلك الرواية وأرادوا قراءتها. كنت ألتقي ببعض من أعرفهم، وفيهم أشخاص شبه أميين، لم يعرفوا كاتبا ولا كتابا من قبل ويسألون بكل تلقائية إن كنت أملك ذلك الكتاب لأنهم يريدون قراءته.
كما قلت، كانت الرقابة في ما مضى فعالة بسبب النقص في الموارد الإعلامية، وأنه لا توجد ثورة اتصال تربط المخفي بمن يبحث عنه، وتوفره له. والمزاج الذي ينبغي أن يحمله القارئ أو المشاهد للدراما، ينبغي أن يكون المزاج الذي تصنعه الجهة المسؤولة عن القص والحذف والإلغاء، وهذا ما لم يعد ممكنا كما قلت، وكما هو معروف أصلا. وحتى بعد ثورة الاتصالات، كنا نرى مواقع محجوبة على الإنترنت بسبب تقصيها لأوضاع معينة لا تريد بعض الجهات أن يتم تقصيها، تجد صحفا لا تستطيع قراءتها، ومقاطع فيديو لا تستطيع أن تفتحها، وجاءت الآن تقنيات يتم بموجبها تغيير إحداثيات الإنترنت، والوصول إلى كل ما هو محجوب ومخفي.
منذ سنوات ترجم الأستاذ سمير جريس، المقيم بألمانيا والمتخصص في ترجمة الأدب الألماني إلى العربية كتابا هاما اسمه “أدباء أمام المحاكم”، وهو عرض لحالات كثيرة من المنع والمطاردة لكتب معينة في عقود سابقة، وفيها سجن واقتراب من المقصلة لبعض كتاب تلك النصوص الأدبية والمسرحية، وكل من يروج لها. إنه كتاب صادم ليس بسبب المآسي التي تقرأ داخله، والظلام الذي أحاط بمستقبل كتاب شباب لم تترك مواهبهم لتترعرع جيدا، وتتخذ مكانها في سطوع المعرفة، ولكن بسبب ما قد تحسه من ارتباك، وأنت ترى جزءا من تاريخ أوروبا، هذه القارة التي أضاءت الآن بشدة، وما تقرأه في ذلك الكتاب، لم يكن يبشر بإضاءة قادمة. إنها الأسباب نفسها التي تمنع الكتب الآن عندنا، الأسباب نفسها التي تؤدي إلى السجن، والمصادرة، وتداعيات كثيرة لا ضرورة لها أبدا في عالمنا العربي.
حقيقة أنا مقتنع بوجود رقابة ذاتية عند كل كاتب، هذه الرقابة تختلف من كاتب لآخر، ففي حين أنها صارمة عندي مثلا، نجدها غافية أو مرنة عند آخرين، وفي حين أنها لا تسمح بالضحك والابتسامات المفرطة عندي، تسمح بذلك وأكثر عن كاتب آخر، وهكذا. هذه الرقابة الذاتية موجودة بالضرورة عند القارئ الذكي، القارئ الذي لن يطارد الكتب التي تشتهر بسبب منعها، بل يظل قارئا دائما لما يظنه مهما وجدير بالقراءة. ولطالما قرأنا مراجعات لقراء من هذا النوع، تتحدث عن كتب معينة، ونجد مثلا من يقول بكل أدب واحترام، إنه يختلف مع كاتب معين في إيراده المشاهد الجنسية بكثرة وبلا ضرورة، ونجد أيضا من يعتذر لكاتب ما، إنه لم يستطع إكمال روايته لأنها لا تتماشى مع قيمه.
إذن الرقابة الذاتية للكاتب، والرقابة نفسها عند المتلقي، تستطيعان إلغاء وجود جيش من الرقباء، هم لا يمنعون الكتب حقيقة بل يدعون لقراءتها حين يعلنون المنع. وأعتقد أن على الرقابة في أي مكان أن تراجع مستجدات الدنيا قبل الحكم على شيء، لأن لا شيء ممنوع بحكم ما استجد في العالم، لا شيء أبدا. الوقت غير هو الوقت الذي يحاكم فيه كاتب أو ناشر بسبب كتاب موجود ومتاح بشدة.
* كاتب سوداني