تختلف العداوة في حجمها ونوعها حسب المنفعة. ففي المهن الأكثر منفعة تكون المنافسة أكثر حضورا، وتكون العداوة جاهزة عند من ليست لديهم القدرات الحقيقية على العمل. ناهيك عن الأقلية التي هي مجبولة نفسيا على العداوة، حتى لو كانوا موهوبين، وهذه تتفرق على كل أنشطة الحياة ولا حل معها غير القدر.
العداوة تكون مؤسفة ومحزنة في المهن الإنسانية، أعني بها الفنون والآداب، ويصبح المكر والخديعة فيها أمرين مكروهين وشديدي الوطأة على الكتاب والمبدعين الموهوبين والأكثر حساسية، وبعضهم قد يدفع ثمنا ينتظره أعداؤه كأن يتوقف عن الكتابة والإبداع، أو يصاب بالجنون. ومن هنا يكون أصحاب هذه المهن في حاجة إلى العمى عما يحدث حولهم من أقرانهم، والصمم عما يسمعون، والانصراف إلى المهنة نفسها والتجويد والتقدم فيها، لأن منتج هذه المهن في النهاية ليس للأفراد في الحقل الواحد، لكن لمن هم في الحقول الأخرى وللمستهلك الرائع غير المعروف قارئا للآداب أو مشاهدا للفنون.
كثيرا ما يقابلني كتاب شباب يشكون من انصراف الصحافة عنهم إلى غيرهم الأقل قدرة لأنهم صحافيون مثل من يهتمون بهم، أو لأنهم يعملون سرا أو علنا مستشارين في بعض أجهزة الدولة الثقافية، فأبتسم وأقول للواحد منهم كم وزع كتابك الأخير؟ وقبل أن ينطق أقول له الذين قرأوك هم الذين لا تعرفهم وليسوا أبناء مهنتك وهؤلاء هم رصيدك الحقيقي، حتى لو كانوا مئة الآن، فأنت شاب صغير وعليك ان تستمر ولا تلتفت حولك، أن تكون عدوا بسبب أعمالك الأدبية أو الفنية الجميلة ليس بالأمر السيئ. الذي يجعلني أقول ذلك هو ما حدث معي في بداية حياتي، واستمر طويلا، لأن من فعلوه مجبولون على الشر وغير قادرين على تصور أن هناك غيرهم، وهم المتنفذون في الصحافة وأجهزة الدولة. وأنا من البداية ابتعدت عن هذا كله، لا أحضر سهرات في بيوت الآخرين إلا نادرا جدا ومع غيري وبمناسبة قد لا تتكرر، وليس لدي شيء أقدمه لأحد منهم، ومن ثم اخترت الهامش برضا تام.
المتعة التي يحصل عليها الكاتب وهو يكتب تغنيه عن غيرها من المتع ولا يضاهيها إلا اتساع القراء يوما بعد يوم.
هذا الهامش كنت أغذيه بأعمالي القصصية والروائية، فيدفعني يوما بعد يوم إلى المتن حتى ولو على مهل. فالمتعة التي يحصل عليها الكاتب وهو يكتب تغنيه عن غيرها من المتع ولا يضاهيها إلا اتساع القراء يوما بعد يوم.
تخصص عدد من هؤلاء الذين تبوأوا مراكز نشر أو سلطة ثقافية، أو حتى مراسلة صحف عربية، في منع ما يصل إليهم مما أكتب وكنت أعرف ذلك من أول محاولة ولا أكرر الأمر، ولا أعاتب أحدا وأرسل بنفسي ما أكتب إلى غير ما ومن يعرفون أو يسيطرون على أماكن أو أشخاص، فالعالم واسع فسيح الأرجاء شعار رفعته لنفسي ولم أتخل عنه ولم يخذلني. وصلت المسألة ببعضهم إلى الإشارة إلى بعض النقاد أن لا يكتبوا، وإلى غيرهم في السلطة أن يمنعوا عني السفر إلى العالم العربي بعلاقاتهم وغيرها، ولمن يدير صحيفة أدبية منهم أن يمنع أي مقال عني أو حتى خبر، ولا أريد أن أتذكر الكثير ولا القليل، لأنني لم أهتم إلا بما أكتب وفي النهاية فتح لي ما كتبت كل الدنيا.
لقد نشرت قبل روايتي «البلدة الأخرى» التي نشرت عام 1990 روايات جميلة بإجماع من قرأها أو كتب عنها من غير هؤلاء ونقادهم، روايات مثل «المسافات» أو «ليلة العشق والدم» لكنهم ظلوا على طريقتهم في الإهمال، ودفع أصدقائهم لإهمال ما أكتب، حتى جاء يوما محمود درويش إلى القاهرة عام 1984 بعد الخروج من بيروت، فأعطيته رواية «صياد اليمام» بدون أن أخبر أحدا، لأنني لو أخبرت أحدا سيقول لي كاذبا ما يبعدني عن درويش الذي لم يكن يعرفني من قبل، ونشرها محمود درويش كاملة في مجلة «الكرمل» ذلك العام فكانت دخولا قويا لي إلى العالم العربي وكانت أول رواية مصرية تنشر لكاتب مصري أو عربي كاملة في «الكرمل» الشهيرة جدا ذلك الوقت. انكسرت الحواجز التي أقاموها. كسرتها روايتي واختياري لمن ينشرها.
صممت على كسر الحواجز أكثر فنشرت في ما بعد «البلدة الأخرى» سنة 1990 في بيروت في دار رياض الريس، فظلت حديث الصحف والمجلات لسنوات وترجمت وفازت بجائزة نجيب محفوظ في الجامعة الأمريكية، وكانت هذه سنتها الأولى، وفتحت باب الترجمة لأعمال أخرى والسفر أيضا، وصرت أقابل كل من يقطعون الطريق عليّ بالترحاب ولا أعاتبهم أبدا. ازدادت عداوتهم فأدركت أن السبب هو ما أكتبه، لأنه ليس لي أي موقع صحافي أو ثقافي، ولا أملك ما أقدمه لهم، ولا حتى «كوباية شاي».
فكرت مرة أن أكتب مذكراتي عن الحياة الثقافية، لكنني بعد عشر صفحات مزقت ما كتبت. ما معنى أن تقول على كاتب أنه يمارس العدوان بقذارة، لأنه يمارسه في قطع الرزق، وليس حتى في قدح ما تكتب.
أدركت أنني صرت عدوا لهم بسبب ما أكتب لا شيء آخر وكنت لا أهتم بما يفعلون وظللت على ذلك. وهم أنفقوا الوقت والجهد لغلق الطرق عليّ. لكن إدراكي لهذا جعلني ألوذ بما أكتب، ورفعت بنفسي شعار «تضايقكم رواياتي إذن سأكتب أخرى» وفي أحد الأحاديث الصحافية قررت المزاح فقلت للصحافي سوف أكتب رواية وحشة، وأكتب في صفحتها الأولى إهداء «إلى ولاد الـ…. الذين يكرهونني علشان يرتاحوا».
فكرت مرة أن أكتب مذكراتي عن الحياة الثقافية، لكنني بعد عشر صفحات مزقت ما كتبت. ما معنى أن تقول على كاتب أنه يمارس العدوان بقذارة، لأنه يمارسه في قطع الرزق، وليس حتى في قدح ما تكتب، أو أنه يعمل لأجهزة معينة أو أنه متآمر مع آخرين. أو.. أو إلخ. كل هذا يجرفه التاريخ ولا تبقى إلا الأعمال الأدبية والفنية. يمكن أن يفعل ذلك السياسيون والصحافيون، لكن الفنان همه الأول والأخير هو فنه وكيف يمارسه ويجدد فيه. غير ذلك قبض ريح. ومن ثم كل من سألني من الصحافيين هل يمكن أن تكتب رواية أو قصة تنتقم فيها ممن ضايقوك، أبتسم وأقول ولماذا أتذكرهم مرة أخرى؟
لكن السؤال هو هل هذا أمر طبيعي؟ أعني أن يجد الكاتب والفنان هذه العداوة من أقرانه. والإجابة هو غير طبيعي، فالفنون والآداب نشاط إنساني في المقام الأول لكن ماذا تفعل مع أنصاف الموهوبين الذين تعطيهم مراكزهم الثقافية في الدولة أكبر من قيمتهم أو المجبولين تربية على الشر؟ إن المنافسة يجب أن تجعل الكاتب الموهوب يشعر «بالأنفة» كما قال يحيى حقي، ويحاول أن يعلو بالفن على ما يقدمه الآخرون، لا أن يقف في طريقهم الحياتي، لكن المنافسة تصبح عداوة في دولة مركزية ومجتمعات مغلقة تسيطر عليها أجهزة أمنية أو مصالح تديرها هيئات ثقافية حكومية، أكثر من يتبوأ مركزا فيها يقع في الوهم الكبير، وهو بما أنه قد صارت له صلاحيات عملية كبيرة فهو مثقف كبير.
٭ روائي مصري
المبدع عبد المجيد:
هل من الممكن أن يكون بين هؤلاء الذين تحدثت عنهم، وبين نظرائِهم في بغداد اتفاقٌ غيرُ مُعلنٍ!
تحياتي أبداً