كالعادة، تستجيب الكتابة لنداء رغبتها الجامحة في التفاعل مع الأسئلة المستبدة بجماع ميكانيزماتها، مستسلمة في ذلك بالكامل، لغواية التفكير وإغراء التأمل، بما يلازمهما معا من تنقيح، وتشذيب، وإعادة النظر في ما تمت كتابته، توخيا لتدارك ما تسهو عنه أحيانا من هفوات تعبيرية، فكرية أو أسلوبية، طمعا في فوزها المنشود بنص متكامل، مستوف لشروط انكتابه، ومؤهل لتوثيق لحظة الذروة التي تمكنت فيها «الكتابة» من تحقيق مهمة تطويقها للسؤال الفكري أو الإبداعي، بعد أن كان مجرد طيف غائم ومنفلت، يناوش القول بدون أن يتمظهر فيه.
غير أن الكاتب وفور إقباله الفرح على قراءة منجز كتابته، باعتباره نصا قائم الذات، ومنفصلا إلى حد ما عن توقيعه، ومتحررا من سلطة وصايته، سوف يلاحظ بغير قليل من الدهشة، تضمن هذا النص بشكل أو بآخر، لقضايا، وإشكالات، كان قد تناولها في كتابات سابقة، بدون أن يهتدي إلى تحديد ما يؤلف بينها من نقاط التماس أو التشابه، خاصة حينما يتعلق الأمر بكتابة ذات طابع نقدي، قوامه تفكيك المسلمات، وممارسة الحفر النظري والجمالي في الهوامش النائية والمنسية، المتسائلة عن طبيعة العلاقات التي ينسجها الكائن مع الوجود، عبر شبكة مترامية الخيوط، ومتعددة العيون، حيث تتالى إشكاليات التواصل، بمختلف توجهاتها الثقافية والحضارية، وحيث تتشعب قنواتها الفكرية والجمالية، كي تنصهر الرؤية الشعرية بالرؤية الفلسفية، بحثا عن أرضية محتملة للقول خارج المنظومات النظرية، التي يطغى هديرها على أصوات ولغات الذات.
ففي قلب هذه الفضاءات الشاسعة من أراضي القول، المطبوعة بحميميتها، والمؤثثة بسديمية الظن، وتواضع اليقين، سيكون من الطبيعي أن يحضر الوعي بنقاط التماس والتشابه بين ما ينكتب الآن، وما تمت كتابته من قبل الكاتب ذاته، في غياب المؤشرات الملموسة، الدالة على ذلك، بالنظر لتعدد وجهات النظر، وتنوع زوايا تناولها للأسئلة الشبيهة من حيث تناميها وتنوعها بذرات الهواء.
علما أن الأسئلة ككل، غالبا ما تتميز بخاصية انفتاحها على دلالاتها الجديدة، انسجاما مع جدة الأنساق المندرجة فيها، منتشية في ذلك بنثر، ونشر بذورها، أينما حلت ورحلت، خلال بحثها الدؤوب عن خصوصيتها، حيث تتمظهر تباعا، في أنساق هي الأصل ذاته، وهي الفرع المتحول والمتعدد لهذا الأصل، الذي يبدو حاضرا بقدر ما يبدو غائبا، بقوة ما ينكتب وما سينكتب، بدون أن يقع في بؤس ما أسميه بالتكرار الثابت والجاف، الشيء الذي لا يسمح بالبت في ما يعتقد أنها نقاط تماس، أو تشابه، كما لا يسمح بالتفكير في عقد أي مقارنة بين ما انكتب من قبل، وما هو بصدد انكتابه، تلافيا لإفساد اللعبة التي يمكن أن تؤثر سلبا على شعلة القول، بفعل تسريب ريح الشك إلى بيت القناعة.
غالبا ما تتميز الأسئلة بخاصية انفتاحها على دلالاتها الجديدة، انسجاما مع جدة الأنساق المندرجة فيها، منتشية في ذلك بنثر، ونشر بذورها، أينما حلت ورحلت، خلال بحثها الدؤوب عن خصوصيتها.
فالكاتب في هذه الحالة، لا يمتثل سوى لسلطة تلك الرغبة السارية في دمه، التي يمكن اعتبار حضورها دليلا على ثراء الهبات التي يعد بها السؤال، في إشراقته الجديدة. كما لو أن السؤال هنا، أمسى شبيها بنبع متعدد الروافد، التي تظل نسبة غير هينة منها منسية، ومتربصة باللحظة الملائمة لانبجاسها. وفي خضم هذا الانبجاس تحديدا، تنتشي الكتابة باستعادة زمن ظهورها، في ظل انفتاح النبع على روافده المنسية، كي يغتني بثراء صبيبها، وكي يشحن ما تقدم بقوة ما تأخر، وهكذا دواليك، استجابة لقوانين الصيرورة، التي هي قوانين الوجود. ذلك أن الإشكال المركزي الذي نحن بصدد إضاءته، يتمثل في رصد الاختلافات الكبيرة المتوزعة على أرضية ما يبدو للملاحظ المتسرع، تشابها، وتماثلا، كما هو الشأن بالنسبة للكتابات العالية، التي ندرت جمالياتها لتعقب الأصداء الخالصة، المنفلتة من دواخلها، والمعبر عنها بالقناعات المتماهية مع اختيارات الذات، حيث يتعلق الأمر في نهاية المطاف، بتبني حياة لها نكهة حروف وفية لنبضها الشخصي. ما يجعلنا نخلص للقول، بأن تمحور الكتابة حول الحقول الأكثر التصاقا بهوية الذات، هو مركز الثقل في صياغة خصوصيتها، كما أنه دليل التجذر الموضوعي لتساؤلات محددة، ومنتقاة بوعي ودراية من بين أخرى معلومة، أو مجهولة، مثقلة بإشكالياتها،أو مجردة من أي مصداقية معرفية. هذا التجذر، هو الذي يساهم في تعميق الوعي بالتساؤلات التي لا تلبث أن تفاجئك بأسرارها الكبيرة والصغيرة، كلما جددنا زاويا رؤيتنا لها. فما من إشكال إلا وله امتداداته وتفرعاته وتشعباته المفاجئة والمؤثرة باستمرار في تدفق ماء الكتابة.
كما أن التورط في إشكال معرفي ما، هو تورط في تداعيات امتداداته وتشابكاته، لذلك فإن الأهمية التي يمكن أن تحظى بها كتابة ما، تكمن أساسا في مراوحتها الدائمة في الحقول المعرفية نفسها، التي تكشف باستمرار عن أسرارها، وعن مجموع القضايا العالقة بين مضايقها، حيث يوجد دائما ثمة ما هو مكتوم في الطي، ومتأهب للحظة تجليه.
إن قيمة كتابة ما، تكمن في انتمائها إلى دورة معرفية معينة. كما أن مسار الكاتب، هو مسار تلك الأسئلة المتفجرة من النواة ذاتها، والمتميزة بخصوبة رحمها، وبقدرتها على تجديد ذاتها. فالأمر هنا يتعلق بالتكرار الحي، الشبيه بحركية تعاقب الليل والنهار، المحفوفة بأسرارها الصغيرة والكبيرة. لكن في الضفة المضادة، تلوح بوادر الظاهرة ذاتها، مؤطرة بالتكرار الثابت، أو إن صح القول، بالتكرار الميت، حيث يلوح جسد الكاتب، وهو يلوب حول القضية ذاتها على عربة التكرار المفرغ من دينامية الحضور.
إن قيمة كتابة ما، تكمن في انتمائها إلى دورة معرفية معينة. كما أن مسار الكاتب، هو مسار تلك الأسئلة المتفجرة من النواة ذاتها، والمتميزة بخصوبة رحمها، وبقدرتها على تجديد ذاتها.
ولعل نسبة غير قليلة من الكتابات المتداولة حاليا، هي أصداء مطابقة لكتابات سابقة، كان من المفروض أن تعتمد كأرضية لاستنبات بذور جديدة ومغايرة. إنها ضرب من الاعتكاف البائس في قلب الزحام الذي لا تسمح حيثياته بالتناول الموضوعي لأي إشكالية فكرية أو إبداعية. إن الأمر في هذه الحالة يصبح شبيها باستنساخ حريص على الاطمئنان إلى سلامة الذاكرة من أعطابها المحتملة، بعيدا عن الهاجس الإبداعي المعني باستحضار منظومة ما، بغاية تفكيكها أو إعادة قراءتها على ضوء رؤية خلاقة، جديدة ومغايرة، خاصة حينما تحتل بنية الاستظهار مركز الثقل في منهجية التعامل مع الخطابات ككل، على مستوى القراءة أو الكتابة، التي تكون فيها الذاكرة مشروطة بفعل الاستعادة بدون غيره. في حين، إن الوظيفة المركزية للذاكرة، تنحصر في بعدها التحفيزي، وليست أبدا غاية في ذاتها، ما يحولها إلى عائق حقيقي يعرقل حركية الاجتهاد والإضافة والاجتراحات المختلفة. فثمة فرق بين الزمن الاسترجاعي بالمفهوم الجاف للكلمة، والزمن الفكري الذي يتميز بقوانينه التوليدية والتحويلية. وفي اعتقادنا أن أعظم ما حققته الحداثة الكونية من فتوحات تقنية، هو ابتكارها للشبكة العنكبوتية التي يمكن اعتبارها بحق، ذاكرة أسطورية، هي الآن رهن إشارة الجميع، حيث أعفت الذاكرة الفردية والجماعية من مهامها التقليدية القديمة، كي تتفرغ بشكل تام لمشاريع الخلق والإبداع، وإعادة كتابة ما سبقت كتابته، لكن بحبر آخر، وبيد مختلفة، لا علاقة لها مطلقا باليد.
٭ شاعر وكاتب من المغرب
سنوات الرصاص كانت منهجا سياسيا من أجل عدم التجرؤ من أي كان إلى التطرق لمعاهدة ” إكس ليبان ” التي أضفت إلى رفاه الفرنسي على حساب المغلوب على أمره.
لا وجود لمعاهدة في إيكس ليبان ولا وجود أيضا لاتفاقيات في إيكس ليبان. الأمر يتعلق بمحادثات بين الحكومة الفرنسية ومختلف الأطياف والتيارات السياسية والاجتماعية في المغرب ( حزب الاستقلال وحزب الشورى والأحزاب الموالية لفرنسا والقياد التقليديون و فئة العلماء رجال الدين … ) كل منها على حدة في شهر غشت 1955. من الطبيعي في ظروف الأزمة المغربية ىنذاك ونفي محمد الخامس وبوادر انطلاق عمليات جيش التحرير المغربي في 1 أكتوبر 1955 أن تقع الحكومة الفرنسية تحت تأثير الوطنيين المغاربة وخاصة المرحوم عبد الرحيم بوعبيد.
تحت عنوان (الكتابة بما سبقت كتابته) نشر المغربي رشيد المومني (كي تنصهر الرؤية الشعرية بالرؤية الفلسفية، بحثا عن أرضية محتملة للقول خارج المنظومات النظرية، التي يطغى هديرها على أصوات ولغات الذات.) أحب أن أضيف:
لكل ذات مزاج وقاموس لسياق يختلف عن ذات وخبرة الآخر، في طريقة الفهم ومن ثم ردة الفعل في التعبير، الإشكالية تبدأ من عدم الإعتراف بوجود إلا ثقافة الأنا والذات، فتصبح السرقة دون فهم واستيعاب، بداية من عدم إحترام حقوق الآخر أصل،
فتخسر في تلك الحالة، الإستفادة من التفاعل الحقيقي مع خبرة الآخر، للتطوير والتكامل والإضافة، لخبرة الأسرة الإنسانية بشكل عام.
شكرا للأديب رشيد المومني على هذه المقالة المتميزة التي توقظ في أنفسنا أسئلة فلسفية متجددة ،حول كل ما يبدو في ظاهره بدهيا و مألوفا ، و هي الأسئلة التي نكتشف خلالها الخطابات المعرفية من وجهة نظر مختلفة تساهم في إماطة اللثام عن أسرارها. شكرا للأستاذ المومني.
شكرا للادبب رشيد المومني على هذه المقالة المتميزة و الممتعة و التي تغرينا بقراءتها أكثر من مرة