عندما تدلهمّ الخطوب، وتتعقد الأحداث وتتشابك، وتبهم الرؤية حتى تظلم يجدر بالمرء أن يعود إلى التاريخ قراءة أو استعادة واستذكارا. وقد رجعت هذه الأيام فقرأت كتاب «الحروب الصليبية في المشرق والمغرب» للأديب والمؤرخ التونسي محمد العروسي المطوي، رحمه الله، فإذا به يكاد يكون تصويرا لما نقاسيه اليوم من تمزق وتخبط وحروب أهلية ودسائس عائلية. ذلك أن رهن الإرادة الذاتية (الوطنية أو القومية أو الإسلامية) لدى الغير، والتنصّل من عبء المسؤولية، والاستنجاد بالأباعد ضد الأقارب، واتخاذ العدوّ الوجودي وليّا حميما يستنصر به على الأخ الشقيق، كل ذلك ليس بالجديد الطارئ علينا. بل هي أفاعيل فعلها عدد معتبر من حكام المسلمين في المشرق والمغرب ومن ملوك الطوائف في الأندلس، واقترفها بعضهم أكثر من مرة حتى بعدما سنحت له فرص العودة إلى الرشد والأوبة إلى الحضن الإسلامي.
ولهذا فإن الحكام العرب الذين يتسابقون اليوم على خطب ودّ دولة إسرائيل سرا وجهرا، بزعم أن لا عدوّ إلا إيران، لم يحدثوا سابقة في التاريخ العربي والإسلامي. وإنما هم اختاروا أن يتّبعوا نهج أسلافهم ممّن لا فهم لهم لـ «طبائع العمران» الخلدوني، ولا همّ لهم إلا التشبث بالأظافر والعض بالنواجذ على سلطة سياسية متوارثة هزلت فنفقت فتحولت جيفة نتنة. وقد غاب عن أذهان هؤلاء المسمّرين في الكراسي أن العدوّ الحقيقي لحكمهم ليست إيران، ولا جماعة الإخوان المسلمين. إلا أن كراهيتهم المفرطة، بل المرضيّة، لإيران ولجماعة الإخوان، وحتى لحركة حماس المحاصرة عالميا وعربيا وإسرائيليا (والتي لا ناقة لها ولا جمل في صراع الأعراب على كراسيّهم)، قد أعمتهم عن أسطع الوقائع وأبسط البسائط، فصاروا يخبطون بأجنحة الوهم في ظلمات الفزع والأرق والبارانويا ويحسبون كل صيحة عليهم.
لفي ـ ستروس يرى أن هنالك خيط وصل تاريخي بين الحملات الاستعمارية (التي تمثل إسرائيل آخر تعيناتها) وبين الحملات الصليبية، ويعتبر أن الاستعمار هو «أكبر كبائر الغرب» وأخطر خطاياه
ولو أنهم قدروا الأمور حق قدرها، بمنأى عن أهواء المحبة والكراهية ونزوات السخط والرضا، لتبيّن لهم أن عدوهم الوحيد هو استبدادهم وظلمهم وجشعهم وتبديدهم لثروات شعوبهم، التي ائتمنهم الله عليها، في المنافسات الصبيانية والمناورات الكيدية والمعارك العبثية، واستعدادهم للركض، ولو دوسا على الجثث، نحو ما زيّنت لهم أنفسهم من شهوة السلطة وسراب العظمة.
ولعل التشابه بين هؤلاء المتبرعين بالتطبيع المجاني في زماننا هذا وبين المتخاذلين من حكام المسلمين مشرقا ومغربا في معظم فترات العصر الوسيط، من أواخر القرن الحادي عشر حتى أواخر القرن السادس عشر الميلادي بل وحتى بعد ذلك، هو مما يؤكد صحة التشابه بين مآل دولة إسرائيل الحالية وبين مآل الممالك الصليبية: قرنان، على أقصى تقدير، ثم تدول الدولة اللقيطة. قرنان، مضى منهما سبعون سنة، ثم تلقى إسرائيل مصير اسبرطة، أي مصير «الانتحار التاريخي»، حسب عبارة محمود درويش. وليس القول بأن مآل دولة إسرائيل الكولونيالية إنما هو إلى الزوال الذي سبق أن آلت إليه الممالك الصليبية قولا صادرا عن مجرد موقف عاطفي، هو موقف العرب والمسلمين المهزومين المقهورين الذين يمنون النفس بالمستحيل من الأماني. بل إنه صادر عن موقف معقول يمكن أن يقول به أي متمعن في التاريخ، سواء ما تعلق منه بتصفية الاستعمار حديثا أم بالمد والجزر بين الشرق والغرب قديما.
ولهذا فإن شيخ علماء الانثروبولوجيا الفرنسي اليهودي كلود لفي ـ ستروس امتنع عام 1967 عن التوقيع على بيان التضامن مع إسرائيل الذي وزعه المفكر السياسي ريمون آرون على المثقفين الفرنسيين. ثم شرح، عام 1988، موقفه بأن قال إنه زار إسرائيل مرة فأثارت اهتمامه إلى أبلغ حد «ولكن ليس لأني وجدت فيها شعبا من أبناء العمومة (إذ ليس عندي شعور بالانتماء العائلي)، وإنما باعتبارها رأس جسر الغرب في أرض الشرق: أي باعتبارها الحملة الصليبية التاسعة». ذلك أن لفي ـ ستروس يرى أن هنالك خيط وصل تاريخي بين الحملات الاستعمارية (التي تمثل إسرائيل آخر تعيناتها) وبين الحملات الصليبية، ويعتبر أن الاستعمار هو «أكبر كبائر الغرب» وأخطر خطاياه. إلا أنه وجب، رغم الحسرة، الإقرار بأنه محقّ في رأيه بأن «ذهاب الاستعمار لم يؤد إلى تحقيق قفزة كبرى إلى الأمام». الشواهد عديدة. ولكن نومنكلاتورا الحكم السوفييتي في الجزائر، بقفزاتها ومعجزاتها، تبقى هي أقوى شاهد وأبلغ دليل.
كاتب تونسي
كاتب عظيم