ساهمت التطورات الأخيرة على الصعيد السياسي في السودان في إثراء الحالة النقاشية على الصعيد الفكري والفلسفي، حول واقع ومستقبل الحركة الإسلامية السودانية في نسختها «الترابَوية»، نسبة لعرّابها حسن الترابي، وهو النقاش الذي بدأ منذ عدة سنوات على يد بعض الباحثين والمنتمين، ممن سعوا لإيجاد تفسير لحالة التراجع التي تعيشها الحركة، والتي تتجلى في تقزم دورها الدعوي ومكانتها الاجتماعية، لحساب أدوار سياسية لم تعد، حتى على مستواها، تمتلك فيها زمام المبادرة.
لا شك في أن السياسة تمثل جزءاً أصيلاً في مشروع الحركات الإسلامية على المحيط الإقليمي والدولي، لكن الاقتصار عليها واتخاذها هدفاً وحيداً، وليس مجرد وسيلة لتحقيق فائدة عامة، يعد مرضاً عضالاً، وتحولاً من نطاق تسخير الموارد والمكتسبات لخدمة الدين والعقيدة، إلى ما هو معاكس تماماً، أي إلى تسخير الشعارات الدينية والآيات القرآنية والمظاهر الشعائرية، بعد تفريغها من محتواها العميق والأصولي، في خدمة مشروع سياسي لا يربطه بالاسلام الإ الاسم وبقية من تراث قديم.
قليل من «الترابيين» واجهوا الحقيقة، من خلال استدراكات وكتابات لاحظوا فيها ابتعاداً تدريجياً عن مبادئ الإسلام، وحدوده الهوياتية التي كانوا يظنون أنهم يحافظون عليها. في الواقع فإن الأمر لا يحتاج سوى للاعتراف، وإلا فإن الحقيقة التي لا تغيب عن أي مراقب صادق، هي أن الوجود الحقيقي لهذه المجموعة التي ما تزال تتخذ من الترابي مرشداً وملهماً، ليس في مجالات الدعوة أو حلقات الدرس والعلم الشرعي أو المساجد، أو حتى سياقات الخدمات الاجتماعية التي يعمل عليها الإسلاميون عادة، وتساهم في خلق حواضن شعبية لهم، ولكن وجودهم الحقيقي، أو الحصري، إنما يتركز في حلقات النقاش السياسي المحض، وصفحات التدافع السياسي، وجلسات البرلمان ومؤتمرات المال والسياسة. ذلك كان أحد نتائج السعي الحثيث للتماهي مع لغة العصر، ودفع تهم الأصولية عن النفس. كان منظرو ذلك التيار الذي انشق عن «الإخوان المسلمين»، منفصلاً عنها، كما عن أي منهج سلفي تقليدي، يهدفون لخلق قبول لدى طوائف المنافسين من التيارات الأخرى ممن سيصبحون، في سياقات تاريخية فريدة جداً وعصية على الفهم، حلفاء وشركاء. كانت نتيجة هذا الخلط والحرص على «الامتزاج»، أن أصبح خطاب هذه المجموعات المحسوبة، أكاديمياً على الأقل، على الإسلام السياسي، سائلاً ومنزوع الدسم، بل لا يكاد المرء يدرك ما إذا كان متحدث ما من مجموعة أبناء الترابي «الإسلامية» أو كان يسارياً أو علمانياً.
محاولات تقييم التحولات التي تعرضت لها هذه الحركة المرتبطة بحسن الترابي، لم تخرج عن الإطار الذي وضعه الباحث الأمريكي إيراني الأصل آصف بيات في أطروحته الشهيرة «ما بعد الإسلاموية» التي ناقش فيها، من خلال الاستعانة بكتاب وباحثين من أكثر من بلد، التحول الذي يطرأ على تجارب الإسلام السياسي، ويجعلها تتجه إلى «دمج التدين بالحقوق والإيمان بالحرية والإسلام بالتحرر»، ما يجعلها تبتعد رويداً رويداً عن لغتها الأصولية ورؤاها الثورية الأولى، حتى تصل لمرحلة ما يمكن تسميته «الأولويات الجديدة».
السياسة تمثل جزءاً أصيلاً في مشروع الحركات الإسلامية واتخاذها هدفاً وحيداً لا وسيلة لتحقيق فائدة عامة، يعد مرضاً عضالاً
هذه المجموعات المتحولة الجديدة ستعتمد، وفق بيات، «التاريخانية» بدلاً من النصوص الجامدة. كان بيات يشير هنا إلى مسارات التقليل من الفتاوى الشرعية السابقة، وجميع ما اتفق على كونه تراث سلفٍ صالح أو أصول فقه بسبب «تاريخانيتها»، أي كونها وليدة عصر ذي ظروف معينة. النصوص الجامدة المقصودة قد تكون نصوص الأحاديث الشريفة، التي يتم في بعض الأحيان التشكيك في ورودها، أو التقليل من شأنها أو صلاحيتها، الأمر الذي يرتبط في بعض الأحيان بالانتقاص من قدر الصحابة الكرام، الذين حملوا هذه الأحاديث عبر تصويرهم بأنهم «كان فيهم فساد» أو أنهم «تقاتلوا من أجل الكرسي» أو غيره من التصريحات والتلميحات.
من هنا سوف تنشأ معركة بين «الإسلامويين» بشكل عام أو «الترابيين»، محل النقاش، وبين المجموعات المتدينة الأخرى، من التي لم تشملها بعد التحولات التي عبر عنها بيات. هذه المجموعات التي تعمل لخدمة الإسلام، على طريقتها، لن تسمح بالمساس بالأصول، ما سيضعها في موضع السخرية والهجوم من قبل المنهج الترابوي، الذي سيصفها بالدروشة أو الجمود أو الجهل بمتطلبات وتعقيدات الواقع (فقهاء حيض ونفاس). ستردّ هذه الجماعات بدورها قائلة إنها غير معنية بالكسب السياسي، وإن كل ما يعنيها هو الوقوف في وجه المتلاعبين بالدين وأصحاب البدع، في حين سيذهب أكثرها راديكالية لحد تكفير الترابي وتحريم الترحّم عليه. كان بيات قد نشر ورقة شهيرة عام 1996 تحت عنوان: «قدوم المجتمع ما بعد الإسلاموي». ركزت تلك الورقة على التجربة الإيرانية وتحولاتها المجتمعية، في مقارنة بين مرحلتي ما قبل وما بعد الخميني. لاحقاً قادته تلك الورقة وخلاصاتها، لتوسيع نطاق أفكاره بما يشمل تجارب أخرى في سياقات مختلفة.
مؤخراً نشر عبد الوهاب الأفندي، الأكاديمي السوداني، وأحد المساهمين في كتاب بيات، مقالاً قصيراً تحت عنوان: «ما بعد الإسلامية في تونس والسودان». قارن فيه بين مآلات التجربة بين ترابيي السودان ونهضويي تونس منطلقاً من حقيقة تأثر تجربة الغنوشي ومجموعته في تونس بأفكار حسن الترابي. هناك إجماع حول وجود تأثر بين الحركتين، رغم اختلاف ظروف النشأة والتحديات، خاصة في ظل العلاقة التي ربطت الغنوشي بالترابي. الغريب في سياق المقارنة هو أن النهاية بدت كذلك متقاربة، فقد انتهت النهضة، بعد عقود من التدافع والنضال باسم الإسلام، إلى حزب سياسي متصالح مع الجو العلماني ومنفصل عن جناحه الدعوي شبه المستقل (يشيد الأفندي بذلك ويعده إيجابياً)، في حين انتهت المجموعة الترابية إلى حزب براغماتي باحث عن السلطة، المؤتمر الشعبي، يرتفع صوته بالمعارضة فقط إذا استشعر اعتداء على مصلحته الخاصة، في حين لا يسمع له أحد صوتاً في قضايا أخرى قد يتعرض فيها الدين، وهو الحزب الإسلامي، للاعتداء. يعتبر الأفندي أن حسن الترابي نفسه هو تحقيق لظاهرة ما بعد الإسلاموية، ما يفهم على أساس كونه لم يكن أصلاً إسلامياً بالمعنى التقليدي وإنما كان ممثلا لمرحلة ما سميناها «الأوليات الجديدة»، ولذلك فهو لم ينشغل بما انشغل به الشيوخ الدينيون التقليديون.
التساؤل المشروع هو: كيف يمكن أن يحمل حزب ما راية إسلامية وينازع أحزاباً أخرى الحكم لا لمجرد كونها منافسة، ولكن بسبب أنها علمانية أو يسارية، ثم لا يلبث، بعد أن يأخذ أصوات الجماهير، أن يغير جلده معتبراً أن الشريعة، التي أخذ عواطف الناس بناء على الانحياز إليها، ليست أولوية، وأن الخلاف مع أولئك العلمانيين ليس اختلافاً أصولياً، وإنما مجرد خلاف في وجهات النظر، بل قد يمضي لما هو أكثر، وصولاً إلى الدخول في تحالفات وإئتلافات معهم ومع غيرهم ضد منافسين آخرين من المعسكر الإسلامي ذاته؟
هناك اليوم تنافس وتباين لا يخفى في الرؤى بين ورثة الحزب الذي تركه الترابي. ليس من بين هذه الاختلافات موضوع الحفاظ على الهوية الإسلامية، أو مساعي تحقيق الشريعة أو غيرها مما يتبادر للذهن من قضايا أولوية لحزب إسلامي، ولكن الخلاف يدور في مجمله حول العلاقة مع السلطة، وحول موقع الحزب في خريطة التحولات السياسية التي قد تشهدها البلاد، إضافة إلى نقاشات حول وسائل تحقيق مشروع الترابي «المنظومة الخالفة» وموقع شخصيات «صديقة» مثل الماركسي عبد الله علي إبراهيم فيه.
*كاتب سوداني
…. “فقد انتهت النهضة، بعد عقود من التدافع والنضال باسم الإسلام، إلى حزب سياسي متصالح مع الجو العلماني ومنفصل عن جناحه الدعوي شبه المستقل (يشيد الأفندي بذلك ويعده إيجابياً)…”
نحن التونسيين الوطنيين لا ناكل من هذا الخبز ….الجماعة لبست ربطة العنق و اللباس الإفرنجي و شوية تصريحات عن المساواة و حقوق الإنسان…و …. و …..والخطة هى نفسها ….التقية ….التمكن …ثم الانقضاض ….على الاقل فى تونس لسنا نيام ….