هل يشكّل المسلمون عرقاً بيولوجياً قائماً بذاته؟

حجم الخط
1

لم يتوانَ كلود ليفي شتراوس، أهمّ المفكرين الأنثروبولوجيين للقرن الماضي، والذي غادرنا عن عمر يناهز المئة عام قبل عشر سنوات، عن الإقرار في شذرات نشرتها له «الماغازين ليتيرير» عام 2003، أنّه «شرع في التفكير في لحظة كانت فيها ثقافتنا تعتدي على ثقافات أخرى فكنت عندها المدافع والشاهد على تلك الثقافات. أما الآن، فعندي الشعور بأنّه الحركة انقلبت رأساً على عقب، وثقافتنا تتخذ وضعية دفعية بازاء التهديدات الخارجية، ومن بينها على الأرجح الانفجار الإسلامي. بالتالي، أشعر بحزم كاثنولوجي بأنّي في موضع الدفاع عن ثقافتي».
ساهمت أعمال الأنّاس الفرنسيّ في زعزعة المركزية الأوروبية وتقويض نظرية «العرق» في القرن الماضي، مع أنّ ملاحظات سلبية تجاه المجتمعات الإسلاميّة، تناثرت بين ثنايا كتبه منذ البدايات، لكنها لطالما عوملت كتوترات معزولة أو عابرة. المفارقة أنّه، وفيما كان البعض في الغرب والشرق (ومنهم الراحل سمير قصير) يستعيدون التسويغ الليفي-شتراوسي للتعددية الثقافية غير التصادمية في مواجهة صاموئيل هانتغتون وصدام الحضارات، كان صاحب «المدارات الحزينة» يختم فكره، بنقطة ذهب فيها أبعد من هانتغتون: الرهاب من «الانفجار الإسلامي» كما سمّاه. يقصد تحديداً الديموغرافيا.
ليس بتفصيل أبداً أن يكون الرهاب من «الإسلام كديموغرافيا» مشتركاً بين عالم جليل ككلود ليفي شتراوس وبين مجرم شنيع كبرنيتون تارانت، مرتكب المذبحة النيوزلندية بحق خمسين من المصلّين المسلمين، في بلد نسبة المسلمين من مجموع سكانه لا تتعدى الواحد بالمئة. لقد كرّس كلود ليفي شتراوس كتابه الصادر عام 1952 بعنوان «العرق والتاريخ»، ضمن السلسلة التي نشرتها منظمة «أونيسكو» لمكافحة النزعة العرقية، لدحض مقولات الكونت دو غوبينو، صاحب «التفاوت بين الأعراق البشرية»، أحد أهمّ المروّجين لنظرية العرق في القرن التاسع عشر.
بالنسبة إلى غوبينو، المشكلة الكبرى تتقوّم في الإختلاط الكارثيّ بين الأعراق. الخلاسية هي التهديد الأكبر. الأعراق في هذه الحالة مهدّدة، وهي في طريقها إلى الإنقراض، وحينها على الدنيا السلام! بالضدّ من هذه النزعة التشاؤمية، سوّق ليفي شتراوس لنظرة ترى أنّه ما من ثقافة معزولة، والإختلاط هو بالعكس يساهم في حيوية كل ثقافة، وكل تقدّم في ثقافة ما يرتكز على تخليط ما. مع هذا، برز – منذ كتاب الأسفار والتأملات «مدارات حزينة» (1955) الذي صنع شهرة ليفي شتراوس في العالمين، الإحتراز من الثقافات الإسلامية، والتركيز تحديداً على نزوعها الإلغائي للثقافات الأخرى.
من الخطأ اختزال ليفي شتراوس في هذا المنحى، ولا يمكن حتى اعمال مماثلة بين نزوعه الى الرهاب من الديموغرافيا الإسلامية وبين الرهاب الإرهابي، الدموي، الشنيع في حالة برنيتون تارانت، الا في نقطة محدّدة.

ولو أنّ نظرية العرق أصبحت منبوذة أكاديمياً، فإنّ اكتشاف الجينوم وما بعده من اكتشافات أصبحت كلّها توظّف لإعادة تدوير نظرية العرق، سواء بأشكال غير مباشرة

بيدَ أنّ «مانيفستو» تارانت (الاستبدال الكبير) والمجزرة التي قام بتصويرها وشرحها لسكان كوكبنا أجمعين، تكمل بمعنى من المعاني «المناظرة» بين ليفي شتراوس في القرن العشرين، وغوبينو في القرن التاسع عشر.
في تلك المناظرة، غوبينو ينطلق من نظرية الأعراق الثابتة، لكنه متكدّر: الأعراق تنتهي شيئاً فشيئاً، الحابل يختلط بالنابل. لكن في الأساس، البيض حقّاً هم عملة نادرة بالنسبة إلى غوبينو، هم المتحدرون من دم أزرق نبيل، ولا وجود لهم بين الفلاحين (لن يحتسب المهاجم الأوسترالي أبيض حقاً اذا ما اعتمدت أيا من معايير التصنيف في القرن التاسع عشر، بل «سلتياً» على الأرجح). لم تكن نظرية «العرق الآري» في زمن غوبينو قد جرت «دمقرطتها» بعد ليقال أنّ أكثرية الأوروبيين مثلاً ينتمون إلى هذا العرق (في زمانه كان الإنكليز لا يزالون يرون الإيرلنديين ملوّنين). لن يحصل ذلك الا لاحقاً، وحتى في زمن صعود النازية، كان يجد روادها صعوبة في الإقرار بأنّ مجمل الشعب الألماني من «العرق الشمالي» (بخلاف النظرة الرائجة تراجع سريعاً استخدام مصطلح «آري» عند النازيين لصالح «شمالي»). قناعة هتلر وهملر الصميمة أنّ الشعب الألماني يحتاج هو الآخر إلى الارتقاء عرقياً، والحرب التدجينية للشعوب والأعراق الأخرى (السلافيون ليسوا بيضاً بالنسبة إلى النازيين) هي مدرسة له لهذا الارتقاء. بشكل عام، لم يحسم التناقض في النازية بين اتجاهين، «تشاؤمي» (التهجين واقع بين الأعراق وبالكاد يمكن الحد منه قليلاً) و«تفاؤلي» (يمكن إعادة إنتاج الترتيب العرقي على الصعيد الأوروبي والكوني عن جديد).
تبعاً للنص الذي صاغه قبل المجزرة التي نفّذها، لا يظهر عند تارانت خوف من التهجين. الخلاسية تكاد أن تكون عنده مسألة عارضة، يتكفّل التاريخ نفسه بتهميشها وتجاوزها. العرق يغلب التطبّع. من هنا هو يتجاوز ثنائية غوبينو ـ ليفي شتراوس. غوبينو متكدر بسبب تفشي الخلاسية، وبسبب ما يجره انتصار البرجوازية على الأرستوقراطية من تهجين العالم كلّه، وبسبب ما سيجرّه الاستعمار نفسه على العرق الأبيض من اختلاط وتلوّث دماء.
بالنسبة إلى غوبينو، الفاتحون الآريون المتخيلون للهند، والإسكندر المقدوني، والصليبيون، ذهبوا جميعاً ضحية للاختلاط بالأعراق المهزومة. وفي المقابل، عند ليفي شتراوس الخلاسية حيوية، ضرورية، أساسية لأي ثقافة ـ مع استثناء الإسلام جزئياً من هذه المعادلة، بشكل ظهر نافراً مع تقدم ليفي شتراوس في السنّ، ومع ارتفاع القلق بشأن الهجرة الإسلامية الى اوروبا.
لكن، أن يصنّف المسلمون عرقاً قائماً بذاته، هذه لم تكن تخطر على بال دو غوبينو. نظر لتاريخهم، كما فعل ارنست رينان أيضاً، على أنّه تاريخ «تناقر» بين عرقين، بين الساميين العرب والآريين الفرس. رينان تحديداً أعاد كل العبقريات التي أظهرتها الحضارة الإسلامية إلى أصل عرقي آريّ، واعتبرها لأجل ذلك دخيلة على المنطق الإسلامي نفسه الذي ينتمي إلى العنصر السامي. السامية بقيت مع ذلك مشتركاً، بالنسبة إلى معتنقي النظريات العرقية ذات المنبت الأوروبي، بين عموم اليهود والمسلمين.
بطبيعة الحال، حتى وهو يعبّر عن مكنون فزع من «الانفجار الإسلامي» لم تكن تخطر ببال ليفي شتراوس أنّه يمكن لأحد أن يجمع كل المسلمين في تفسير بيولوجي واحد. هذا مع أنّ ليفي شتراوس أوحى بأنّ مشكلته مع المسلمين مزدوجة: ثقافاتهم الغائية هيمنية، زائد ديموغرافيا صاعدة ومهاجرة الى أوروبا.
أما بالنسبة إلى برينتون تارانت، فلن تفهم فعلته، كتابة وقتلاً وتصويراً، إلا بثلاث مقدّمات.
الأولى، أنّه بخلاف دوغبينو، هو متفائل بأنّ الأعراق لن تتراجع، لكنه متشائم بأن البيض تحديداً يتراجعون في مواجهة أعراق أخرى. لم يدرك دوغوبينو زمن «الحمض النووي» كي يعيد انتاج النظرية العرقية على محكها. اليوم، ولو أنّ نظرية العرق أصبحت منبوذة أكاديمياً، فإنّ اكتشاف الجينوم وما بعده من اكتشافات أصبحت كلّها توظّف لإعادة تدوير نظرية العرق، سواء بأشكال غير مباشرة، من داخل المجمعات العلمية والأطر الأكاديمية، أو بأشكال مباشرة، بل نافرة، التي تتدفّق على شبكة الإنترنت.
ثانياً، إن تارانت وبخلاف النظريات العرقية الماضية ينتمي إلى وجهة تتبلور وينبغي أخذها على الأقل بعين جدية لما تختزنه من خطورة. هذه الوجهة التي تطوّر عند بعض أقصى اليمين، ومن الخطأ تماماً اختزال كل أقصى اليمين بها، باتت تشبع صياغتها لمعادلتها بالشكل التالي: المسلمون يشكّلون عرقاً بيولوجياً قائماً بذاته، والقاعدة الأساسية لإنتمائهم إلى دائرة واحدة بيولوجية هي معدّلات تكاثرهم المرتفعة!
المسافة هنا شاسعة مع غوبينو، الذي شارك قرنه نظرة إلى المسلمين بأنهم لا يزيدون سكانياً بل هم إلى تراجع، وبأن هذا التراجع الديموغرافي هو بنتيجة الخمول والافتقاد إلى التعصب. كان غوبينو يلوم المسلمين على قلة التعصب لديهم.
تارانت في المقابل مصاب بعقدة «خصوبة المسلمين»، على ما هو جليّ في نصّه، وبالنسبة له كل تاريخ البشرية منذ ظهور الإسلام هو صراع بين «العرق الأبيض» والمسلمين المتكاثرين، وهو يمجّد الصليبيين في الصراع، بخلاف ما راج في القرن التاسع عشر من لومهم على الاختلاط بالأعراق الأخرى. في الوقت نفسه، وهذه المقدمة الثالثة لفهم الحاصل، الفيديو الذي صوّره يراد منه القول بأنّ المسلمين خطيرون، زاحفون، يهددونا، لكنهم في نفس الوقت يستكينون حين ترتكب بهم المجزرة، تماماً كالسكان الأصليين في اوقيانيا الذين حصدهم المستوطنون البيض، الأجداد غير البعيدين كثيراً عن جيل تارانت، مع فارق أنّ هؤلاء السكان الأصليين، المزودين بأسلحة بدائية، لا يتمتعون بهذه الخطورة «الخصوبية» العرقية التكاثرية التي للمسلمين.

كاتب لبناني

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول سوري:

    مقال تحليلي رائع ومقنع ويفند نظريات ” العنصريين” شكرا استاذ وسام

إشترك في قائمتنا البريدية