تشكل كتابة الرواية فضاء مقترحا لمواجهة كتابة الحكاية او التاريخ، اوربما تحيل الى نوع من استعادة سرديات ذلك التاريخ، بوصفه تدوينا متخيلا، او استحواذا على سرائر وشفرات المكان او السلطة، واستغوار مجرى ما يدور في عوالمه من احداث ووقائع وحيوات، تلك التي تدوّن مروياتها بوصفها نسقا مضمرا للحكي، او باعثا للانفتاح على بعض ما يهجس به مدوّن التاريخ، التاريخ الذي يعنى بالمكان/ القصر/ الحريم/الايوان/ الجامع/ السجن، مثلما يعنى بالهوية والزمن والشخصيات عبر التعرّف على علاقاتها وصراعاتها…
الكتابة هنا لا تعدو ان تكون محاولة لضبط ايقاع المتخيل السردي، وهندسة اسطرته الشفاهية، اذ يتلبس الحكي السردي بقناع الراوي الكلي العلم، او الراوي الذي يصنع نصا مقابلا، لها شغف تذويت الكتابة، مثلما له هوس التلصص على التاريخ، او محاولة اخفاء الكثير مسكوتاته، مقابل الهروب الى(سردنة) مدوناته المقموعة والقامعة، اذ هي سرديات التابو والاب والمقدس والمكان، ورغم ان كتابة الرواية تظل الاقرب الى المغامرة، الا انها تظل تحتفظ بخاصية ان تكون الاغواء الذي يستدرج الروائي لان يحقق قصديته في مواجهة هذا التاريخ، عبر اصطناع ماهو متخيل، او ضدي، اذ تحوز الرواية على قوة المواجهة، وعلى احقية ان تتجاوز التاريخ عبر اسباغ مايشبه التمثيل على المكان والشخصية، وعلى رصد تحولاتهما وصراعهما، واستكناه ماتبثه من ارواح سرية، هي الارواح المبثوثة في الحكايات وليست في الوقائع ، لكنها- مع ذلك- تبقى الاكثر تأثيرا على مسار تشكيل بنياتها السردية، وبما يجعل تلاحم عناصر السرد- الزمن، المكان، الشخصية- قرينة بتلك(السردنة) المتخيلة، تلك التي تتشكل ملامحها عبر قدرة الروائية في تحريك هذه العناصر داخل الاطر والمساحات، وعبر ما تنطوي عليه من علائق وصراعات وسرائر..
رواية»خرجنا من ضلع جبل» للروائية الاماراتية لولوة احمد المنصوري تضعنا امام هذا النوع من الكتابة الاستعادية، تلك التي تذكرنا بتقانات اللعبة السردية من جانب، مثلما تكشف لنا عن فاعلية السرد التي يواجه الحكاية او التاريخ ثانيا، اذ تبدو هذه الرواية وهي تستعير تقانة الميتاسرد تأكيدا لهذه المواجهة، اذ ترصد بوعي ذاتي مجرى السرد، وتتبع بقصدية علاقة وعيها بالاحداث والحيوات التي تشكل وحداتها البنائية، وتبئر منظورها للصراع بوصفه صراعا للشخصيات مع الواقع ومع عوالمها واوهامها واساطيرها، وعبر تذويت هذا المنظور الذي يؤكد حضور ذلك الوعي بوصفه وعيا نرجسيا وقصديا، فهو يكشف عن وظيفته في صياغة الاحداث، وعن القراءة السردية التي تستنطقها الذات الواعية لتاريخ المكان، ولتقديم تحليل نفسي لعنف هذا الصراع الذي تخوضه الشخصية الرئيسة/ شخصية الراوية، بوصفها الشخصية المركزية التي تستقطب الاحداث وتخضعها لمرقابها السردي، اذ تنقل منظور المشاهدة الى منظور الاستعادة، حيث تتوسع فعالية اشتغالها عبر تقويض البناء الافقي للاحداث، وعبر خلق ترابطات افتراضية بين المتخيل السردي وبين الوقائع، والتي تكون تقانة الميتاسرد مجالها الاكثر ثراء لابراز صوت الراوية في صياغة الرؤية السردية لبنية الحكي، والى تقديم فاعلية الكتابة بوصفها لعبة سردية تقوم على استكناه الحمولات الرمزية للسيرة التي يرويها الضمير السردي ل(انا) الراوية، وعلى استنطاق الاحداث وتفجير انساقها المضمرة، عبر التحقق في انسنة المكان/ الجبل، بوصفه وحدة سردية فاعلة، او بوصفه شاهدا ومولدا ينطوي على بعد سيميائي، او وجها اخر للولادة الذكورية المؤسطرة الذي تخرج من ضلعه الانوثات، تلك التي تقود الى وصف ايهامي يوحي بروح سرية مسكونة بشهوة الموت والسلطة، والذي يجد نقيضه الانسي بشخصية( هيثم يعقوب) المتمرد والواهم والزنديق والباحث عن الزمن، وهو يوحي بالحياة، وهذا مايجعل المبنى التركيبي للرواية ينزاج باتجاه تحفيز هذا التضاد، بوصفها اللعبة السردية التي تضفي صراعاتها على معطى الرواية، باعتبارها لعبة قصدية تقوم على فعالية الربط التكويني، وعلى اعطاء (السيرذاتي) المتخيل عناصر تبدو اكثر اندماجا، رغم ان الروائية، تستعيرها من التاريخ(بلقيس، زنوبيا، نوح، ابليس) اذ يتعزز وعي الرواية للعبتها السردية، والى ما يسبغ على انا(السارد/ الساردة) سمات تثري الوظيفة الحكواتية، والوظيفة التعبيرية للراوية، وللكشف عن المناخ النفسي الذي يجسد حساسية البطلة الساردة، البطلة التي تكتب سيرة للمكان وترصد تحولاته وصراعاته، والتي تجد في حكاياتها نزوعا للتمرد، وتنويعا لتوسيع مديات لغة السرد من جانب، والكشف عن توصلات تزاوج فيها بين التاريخي والسردي من جانب اخر، اذ تكون تلك المزاوجة تحريكا للمسار السردي واستمراء لعبتها التقانية في كسر الايهام، وبما يرهن المتن الحكائي الى سرد سيري له منطق الكشف، وله فاعلية استنطاق المبنى الحكائي من خلال التنوع في فاعليتها السيميائية، ليكون الاكثر تعبيرا عن فاعلية السارد الذاتي، وعن رؤيته لما يبثه من اشارات، تلك التي تقابل ما يبثه هذا السارد من توصلات تدفع باتجاه يتبئّر مستويات النظر الى السردي- التاريخي والحكائي واليومي- في الرواية، وهو مايعطي للروائية تحفيزا بصريا لوضع الجبل ازاء الشخصية، والمكان الواقعي ازاء المتخيل، وهو في جوهره محاولة للتعبير عن قدرة الروائية في اثراء مشغلها السردي، حيث يكون هو الفضاء الواسع للقراءة، وحيث هو المهيمنة التي توجه هذه القراءة لسبر اغوار المكان المتحول، ولخفايا ما تهجس به الشخصيات، والكشف عن طبيعة الازمة النفسية التي تحوطها والتشوهات التي تعيش ايحاءاتها الرمزية، مثلما تعبر ايضا عن وعي غير واضح المعالم بقراءة التحولات المتقابلة، تلك التي تلامس السيمياء السياسي، مع السيمياء الاجتماعي، والتي تضع شخصيتها البطلة امام الانخراط في لعبة استيهام تدفع باتجاه الانحياز الى قوة الحياة والى تغيير قواعد الحب والجنس بعيدا عن العاهات، وبما يجعل هذه القوة مواجهة لسيمياء الموت التي ظلت تعبث بسرائر المكان وتثير شياطينه واسراره..
استهلال فعالية الاثارة في كتابة هذه الرواية يبدأ من العنوان، بوصفه عتبة موجّهة، وبوصفه ايضا بنية دالة على طبيعة تشكل فضائها السردي، اذ يكون (الخروج من ضلع الجبل)هو مقابل سحري ومثيولوجي لشفرة الخلق من ضلع الكائن، وجبل(جيس) في هذا السياق يتحول من مكان واقعي، الى فضاء سحري واسطوري، حدّ ان العنوان يحيل قرائيا الى المجاورة(السحر واقعية) تلك التي تستنطق الكثير من الوقائع واليوميات، وبما يحيل الى الوقائع السياسية والتاريخية في الامارات العربية، والى انتقالها التاريخي من بيئة رملية وجبلية الى بيئة(النفط) والاسفلت، حيث تتفكك المنظومة الوصفية الى منظومات تعبيرية ضاغطة ومتشظية، تلك التي تبدأ من لحظتها وعيها المتلصصة على التحولات، وتنتهي عند رصدها للمكان المؤنسن، بوصفها الكائن والكينونة، وبوصف الحيوات التي تحوطه تتكامل مع ما ترصده في وعيها الذاتي، ذلك الوعي الذي يضع الروائية/ الراوية امام لحظة مفارقة، وامام نوع من الاغتراب الوجودي، المتعالق مع اغترابات داخلية تمسّ الجسد والهوية والحب والعلاقة مع الاخرين.
رواية(خرجنا من ضلع الجبل)شهادة وعي حاد على سرائر التحولات في المكان الاماراتي، وعلى تمثله للتاريخ بوصفه فاعلا سرديا، واطلاقا حيويا لتعزيز الرؤية السردية بسرديات مجاورة مستمدة من مصادر متنوعة شفوية وتدوينية، والتي تضع القارىء امام فضاء سردي تتشكل فيه تاريخية الوقائع، مع انزياحاتها السردية والتي تصب في انضاج الوعي الروائي بالمحلية والتاريخية والميثولوجية التي سعت الرواية الى تكريسها.
علي حسن الفواز