المسلمون وخطر الردّة الغربية عن الليبرالية

تضافرت موجة التضامن والتعاطف مع المسلمين التي عمّت نيوزيلندا ووصلت تفاعلاتها إلى بلدان غربية أخرى مع موقف رئيسة الوزراء جاسندا آردرن النبيل، الذي تجلّت فيه أفضل ما تتقوّم به الفطرة البشرية السوية من المروءة، على إنشاء مزاج عالمي متعال على الانتماءات، ومشجع على عدم فقد الأمل في إمكانية أن تتحرر الإنسانية من بعض عذاباتها عبر تحرر مختلف الأمم من بعض تحيزاتها وجهالاتها. ذلك أن رابطة الشعور القومي، وما يتصل بها من الذكريات الرومانسية عن التاريخ المجيد، لا تزال تقف، في معظم الأقطار، حائلا دون الانفتاح على الآخرين. والآخرون، عادة، هم اللاجئون والمهاجرون. ويستوي عند الغربي العادي أن يكون المهاجرون قد أتوا للتّو أو أن يكونوا مواطنين من الجيل الرابع أو الخامس، فالسحنة أو لون البشرة أو اللكنة علامات كافية لقرع أجراس الهويات القاتلة وللميز بين الأصيل والدخيل.
وليس الانفتاح على الآخرين الذي نقصده هنا هو ذلك الانفتاح المعتاد القائم على التسامح الذي تلهج به الألسن في كل مقام. إذ إن من الظواهر التي لم تنل ما تستحق من الدرس في المجتمعات الغربية أن التسامح يكاد يكون القيمة الوحيدة التي يرجع إليها الخطاب الديمقراطي المعاصر كلما تعلق الأمر بالتعايش بين الثقافات والديانات. إلا أن الحقيقة المتخفية خلف مسألة تأسيس التعايش على التسامح هي أن كثرة الكلام عن التسامح إنما تحيل، ولو عن غير قصد، إلى معنى تنازل الأغلبية، تكرّما وتفضّلا، عن بعض امتيازاتها لغاية تمكين الأقليات من معايشتها في نفس المكان ومشاركتها نفس المرافق والخدمات والحقوق والحريات.

شبح «الديمقراطية اللاّ-ليبرالية» قد أخذ يحوم حول البلدان الغربية منذ أن أصبحت الليبرالية مهددة بردّة كبرى في عقر دارها وأصبح الخطر (اليميني؛ أو الشعبوي؛ أو الاستعلائي…) المحدق بها ينذر باحتمال انطفاء أنوارها وتحوّلها مجرد «برهة» عابرة في مجرى التاريخ الغربي

فالتسامح فيه معنى السماح والمسامحة. والمسامح كريم! والمسامح في هذا المقام هو ابن البلد الأصيل، أما المستفيد فهو الوافد الدخيل. والعجيب أن مفهوم التسامح هذا سائد في الخطاب السياسي الغربي دون أن ينتبه إلا القلائل إلى أن المعنى الذي يحيل إليه منقوص مغلوط، بل ومعيب. إذ إن من يؤمن بالمساواة بين البشر لا بد أن يتجاوز مفهوم التسامح، وما يتصل به من إيحاءات المنحة والمنّة واليد العليا واليد السفلى، وأن يؤمن جازم الإيمان بقيمة الاحترام المتبادل. الاحترام بين ذوات متكافئة. الاحترام الذي لا فضل فيه لأحد على أحد.
وقد استحقت جاسندا آردرن ما صارت تحظى به من تقدير عالمي ومن تزكية واسعة باعتبارها أحق الناس بجائزة نوبل للسلام لهذا العام. ذلك أن ما بادرت إليه، قولا وفعلا، على صعيد طمأنة المسلمين بأن حقوقهم كمواطنين أو مهاجرين مكفولة، وأن جميع سكان البلاد إنما هم عائلة واحدة، هو من أذكى وأنجع ما يمكن أن تتسلح به الديمقراطية الليبرالية في مجال تعطيل أسباب صدام الحضارات. على أن تنبؤ هانتنغتون بهذا الصدام لم يكن من منطلق الابتهاج باحتمالاته، وإنما من منطلق الدراسة الواقعية للعلاقات الدولية ولديناميات المجتمعات الغربية التي لم تفلح في تحقيق طموحها المعلن إلى أن تكون مجتمعات تعدّدية الأعراق والثقافات والديانات، أي مجتمعات تضمن التعايش السلمي، بل والتلاقح الإبداعي، بين الأغلبية ذات الأصول المسيحية ـ اليهودية وبين بقية الأقليات والجاليات. وفي التصور الليبرالي أن هذا التعايش ليس مبدأ أخلاقيا أو سياسيا فحسب، بل هو أيضا عمل مصلحي يعود على المجتمعات الغربية بوفر من المنافع الديموغرافية والثقافية.
ملاحظتان: أولاهما أن جميع الحقوق التي يتمتع بها الأجانب في الدول الغربية، سواء أكانوا مهاجرين أم مواطنين، ليست وليدة النظام الديمقراطي بقدر ما هي وليدة العقيدة الليبرالية التي كان الظن، حتى زمن قريب، أنها مكوّن ثابت في إيديولوجيا الدولة وثقافة المجتمع. الملاحظة الثانية أن من اللازم التنبيه إلى وجوب عدم ركون المسلمين إلى أمان أخذ هذه الحقوق مأخذ المكاسب التي لا رجعة عنها. ذلك أن شبح «الديمقراطية اللاّ-ليبرالية» قد أخذ يحوم حول البلدان الغربية منذ أن أصبحت الليبرالية مهددة بردّة كبرى في عقر دارها وأصبح الخطر (اليميني؛ أو الشعبوي؛ أو الاستعلائي…) المحدق بها ينذر باحتمال انطفاء أنوارها وتحوّلها مجرد برهة عابرة في مجرى التاريخ الغربي.

كاتب تونسي

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية