بيروت ـ «القدس العربي»: دخلت الحرب التي يقودها «التحالف» السعودي الإماراتي في اليمن عامها الخامس، في الوقت الذي بدأت تظهر مساعي الإمارات لاحتلال مناطق في الجنوب، والهيمنة على مقدراته ومرافئه الحيوية، عبر تسلقها النزعة الانفصالية لبعض المكونات والتلطي خلف مطالبها. فخلال السنوات الماضية، برز ما عرف بـ «المجلس الانتقالي الجنوبي»، بقيادة عيدروس الزبيدي، وأذرعه العسكرية الموالية، والتي انتشرت في المحافظات الجنوبية، بدعمٍ وتمويلٍ إماراتيَين، كأحد الجهات التي عوّلت عليها أبوظبي لفرض سيطرتها الأمنية والسياسية على الجنوب اليمني بوجه حكومة «الشرعية»، والتي تزعم أنها دخلت الحرب لإعادة سلطتها على كامل الأراضي اليمنية.
«حصان طروادة»
كانت علاقة «المجلس الانتقالي» بالإمارات واضحة منذ تأسيسه عام 2016، إذ تبنت الأخيرة، رئيس «المجلس» عيدروس الزبيدي، محافظ عدن السابق ودعمته، كما يعتبر نائبه هاني بن بريك، «السلفي» التوجه، ذا النزعة «التكفيرية» أحد الشخصيات المقربة من سلطات أبو ظبي. ومع إعلان تأسيس «المجلس» دفعت الإمارات عددًا من محافظي جنوب اليمن للانضمام إلى عضوية المجلس.
ظهر «الانتقالي» منذ بروزه كـ «حصان طروادة» تمرر عبره أبو ظبي أجندتها الخاصة لتفرض سيطرتها، ونفوذها في الجنوب اليمني. مقابل ذلك، لا دور سعودي واضح وعلني في دعم «المجلس الانتقالي»، إلا أن الرياض تتغاضى عن تحركات «المجلس» السياسية والعسكرية، لصالح إرضاء الحليف الإماراتي.
وينشط «المجلس الانتقالي الجنوبي» بشكلٍ أساسي، في محافظتي ضالع ولحج الجنوبيتين، ويتمتع بوجود متواضع في محافظة شبوة وبنسبة أقل في محافظة المهرة، فيما تتمركز قوات «الحزام الأمني» بشكلٍ واسعٍ في محافظة عدن، بعد أن خاضت، مدعومة من الإمارات، اشتباكات عنيفة مع قوات الرئيس اليمني، عبد ربه منصور هادي، سيطرت من خلالها على مفاصل الحياة العسكرية والأمنية ومعظم مؤسسات الدولة الخدماتية، في «العاصمة المؤقتة» وتبع ذلك اغتيالات لعدد كبير من الشخصيات الدينية السياسية الرافضة للهيمنة الإماراتية.
تعتبر المناطق التي يسيطر عليها «المجلس» مناطق نفوذ إماراتية، تحاول من خلالها الأخيرة الهيمنة على الثروات الطبيعية الموجودة في المحافظات لا سيما النفطية. وتُشكّل محافظة حضرموت الغنية بالنفط عقدة بالنسبة «للمجلس الانتقالي»، إذ تنادي شخصيات بارزة في المحافظة بـ «حضرموت مستقلة ذاتيا، عن الشمال والجنوب».
ويرفض «مؤتمر حضرموت الجامع»، وهو بمثابة الإطار الجامع لحضرموت والمعبر عن مطالبها ومواقفها، أي «مجلس جنوبي» مثل توجهات «الانتقالي»، في حين حاول الأخير ضمن بيانه التأسيسي، استرضاء الحضارمة باعتباره أن الدولة المنفصلة التي يسعى لإعادتها «ستكون فيدرالية»، وذلك للالتفاف على النزعة الحضرمية المتمسكة بالاستقلال الذاتي، كمحافظة تحتل مساحتها ثلث اليمن، وكإقليم مع شبوة والمهرة وسقطرى، يحتل أكثر من نصف مساحة اليمن.
وفي سقطرى، أُرغمت الإمارات على سحب قواتها من الأرخبيل ذات الموقع الاستراتيجي في المحيط الهندي، في أيار العام الماضي، بعد شكوى تقدمت بها حكومة الرئيس عبد ربه منصور هادي، إلى الأمم المتحدة، وبعد التوصل لاتفاق رعته السعودية ينص على عودة الوضع في سقطرى لما كان عليه قبل دخول القوات الإماراتية اليها، بموازاة تحركات الشعبية مناهضة للوجود الإماراتي.
وفيما استنكرت معظم المكونات السياسية الجنوبية الاحتلال الإماراتي للأرخبيل، كان لافتًا أن «المجلس الانتقالي» هو المكون الوحيد الذي اعتبر الاتهامات الموجهة للإمارات باحتلال سقطرى «مجرد ادعاءات وافتراءات غير صحيحة»، على الرغم من النهب الممنهج الذي مارسته القوات الإماراتية للثروات، ومحاولتها فرض الهوية الإماراتية على الأرخبيل برفعها للعلم الإماراتي على مقاره الرسمية، واتخاذ خطوات من شأنها إحداث تغيير ديمغرافي في سقطرى، وتهديد هويته اليمنية.
واتبعت الإمارات خطوات مماثلة في محافظتي المهرة وأبين، لتتلقى الرد الشعبي ذاته، بمواجهة ورفض وجودها العسكري.
أفضت تلك الممارسات المتنقلة بين المحافظات، الى مسارٍ جديد بين مكونات الشعب اليمني جنوبًا، السياسية والقبلية من جهة، وبين «المجلس الانتقالي» من جهة أخرى. وظهرت الخلافات بين «المجلس الانتقالي» والمكونات القبلية جنوب اليمن بشكلٍ واضحٍ خلال الآونة الأخيرة، وكانت محافظة شبوة دليلاً على عمق تلك الخلافات والرفض القبلي لتواجد القوات الموالية للإمارات في الجنوب اليمني.
مصادر محلية أكدت مؤخراً أن حكماً قبلياً صدر بإدانة الإمارات بقتل تسعة من أفراد قبيلة «السادة» على أيدي قوات ما يُعرف بـ «النخبة الشبوانية» الموالية لها، مطلع العام الجاري، وذلك على إثر الهجوم الذي شنته «النخبة» في يناير/ كانون الثاني، مدعومةً من الإمارات، على المحافظة تحت ذريعة ملاحقة «مطلوبين متهمين بالانتماء لتنظيم القاعدة»، حيث قامت القوة باقتحام مديرية مرخة واشتبكت مع أهالي المديرية وقتلت منهم تسعة أشخاص بينهم أطفال.
لم يحقق المجلس الانتقالي أي إنجازات سياسية والدليل عدم مشاركته في ستوكهولم
ومنذ أيام، هددت القوات الإماراتية المتواجدة في شبوة، قبائل «السادة» في المديرية المذكورة، باستخدام الطيران لقصفهم، إذا لم يسلموا السلاح والسيارات التي خلفتها مليشيات «النخبة الشبوانية» قبل انسحابها من الاشتباكات.
وفي محافظة عدن تكاد لا تخلو مديرية من تظاهراتٍ ضد سياسات قوات «الحزام الأمني» المدعوم إماراتيًا، على خلفية الاعتقالات والاغتيالات التي تنفذها الأخيرة.
وكان قد كُشِف مؤخراً في بيان منسوب لمعتقلين يمنيين، في أحد السجون التي تشرف عليها قوات موالية للإمارات في مدينة عدن، عن أسماء 23 سجيناً تعرّضوا للتصفية في السجون السرية التابعة للقوات الإماراتية، بالرغم من ادعاء أبو ظبي تسليمها ادارة سجونها الى القوات الحكومية. وتصاعدت مؤخرًا حدّة القمع ضد المحتجين في «العاصمة المؤقتة»، من قبل قوات «الحزام الأمني»، حيث قتل عدد من المدنيين وجرح العشرات نهاية الأسبوع الماضي، بعد أن أطلقت قوات «الحزام» النار على محتجين سلميين تظاهروا احتجاجًا على اختطاف قوة امنية تابعة لقوات «الحزام» عددًا من أهالي حي «العشوائي» في مدينة البريقة أو ما يعرف بـ«عدن الصغرى»، ليتبيّن لاحقًا مقتل عددًا منهم تحت التعذيب. وجاءت تلك الممارسات من قبل قوات «الحزام» بعد أيامٍ من تهديدات أطلقها بن بريك، أعلن خلالها التصدي للمحتجين عسكريًا، متهمًا إياهم بالتبعية لحزب «الاصلاح»، ضمن سياسة ممنهجة يتبعها بن بريك عبر تغليف مطالب المحتجين الرافضة لسياسات «الانتقالي»، بالصراع السياسي والأمني مع حزب «الإصلاح» المحسوب على «الاخوان المسلمين».
وبالتزامن مع ذلك، اندلعت مواجهات مسلحة في مدينة الشيخ عثمان في عدن، بين قوات «المقاومة» التابعة لحكومة عبد ربه منصور هادي، وقوات «الحزام الأمني»، استخدمت فيها الأسلحة الثقيلة بين المتقاتلين.
حراك جنوبي واسع؟
على ضوء الأحداث الأخيرة بين قوات «الحزام الأمني» والمحتجين، وما رافق ذلك من مناوشات عسكرية بين قوات موالية للإمارات، ومكونات قبلية وسياسية في المحافظات الجنوبية، تؤكد مصادر يمنية مواكبة أن «الأجهزة التابعة للإمارات في الجنوب اليمني باتت غير مرحبٍ بها، لا سيما بعد تصاعد الانتهاكات بحق المواطنين، والتي كان آخرها أحداث البريقة».
ورغم اقتصار الصوت الرافض لتصرفات المليشيات الإماراتية في معظمه، على النشاط الحقوقي والفعاليات السلمية، تقول المصادر في حديثها الى «القدس العربي» إن «التطورات اللاحقة حوّلت السخط الشعبي الصامت الى انتفاضة معلنة، ومن المتوقع أن تتسع رقعتها، خصوصًا وأن المليشيات الإماراتية لا تزال تمارس الانتهاكات، وتهدد باستخدام القوة لفض التظاهرات».
وتشير المصادر الى أن «المحافظات اليمنية الجنوبية غير عدن، تشهد حراكًا مماثلامن قبل قوى محلية ضد التحالف، في المهرة وشبوة وحضرموت»، لافتةً الى أن «الحديث عن تنسيق وتنظيم موحد لتلك القوى بوجه ممارسات قوى التحالف وعلى رأسها الإمارات وارد ومطروح لكن لم يتم الاعلان عنه بعد، بما أن الاطراف المناهضة لتلك الممارسات متنوعة، وتحتاج لمزيد من الوقت، ومنها قوى سياسية منظمة، وشخصيات قبلية، وقيادات سياسية وحراكية، وشخصيات مستقلة».
واقعٍ جديد
تمتّع «المجلس الانتقالي» في الأشهر الأولى لتأسيسه بزخمٍ شعبي جنوبي كبير، على صعيد القبائل والشخصيات الجنوبية السياسية والثقافية المؤثرة، التي دعمت مطالبه الانفصالية عن الشمال. لكن مع بدء انكشاف الدور الحقيقي «للمجلس» وما يخفيه من تحركات إماراتية مشبوهة تحت مظلة «الدعوات الانفصالية» بدأ الزخم الشعبي يتراجع. وفي خضم التطورات المتلاحقة، انحصرت مهمة «المجلس الانتقالي» بتبييض صورة الإمارات في الجنوب اليمني، من خلال التضليل والتدليس، وقمع التظاهرات السلمية ضد ممارسات أبو ظبي عبر مواجهتها عسكريًا. ونتيجةً لمواقفه، بدأت شعبية «الانتقالي» تتهاوى بما أن النفور الشعبي من الممارسات الإماراتية أصبح مؤثرًا بشكلٍ أكبر من التضليل والقمع الذي يُمارس، وبدأ يسلك مسارات أكثر علانية وجرأة في العديد من المحافظات الجنوبية.
يضاف الى ذلك، أن عددًا من أعضاء «الجمعية الوطنية» التابعة «للانتقالي» والمشكّلة من المدن والمديريات الجنوبية، تركوا عضويتهم وانضموا الى الاحتجاجات بسبب ممارسات الأخير. في المقابل، تحاول الإمارات تسويق «المجلس الانتقالي» على أنه الحامل للقضية الجنوبية، لكن المشهد السياسي والأمني يكشف أن أبو ظبي تبيع الأوهام للجنوبيين، فيما باتت القوى السياسية الجنوبية بمعظمها تدرك، أن مخطط الإمارات هو تفتيت الجنوب والشمال وإضعاف اليمن في شطريه. وعزز ذلك غياب «القضية الجنوبية» أو أيًّا من ممثليها، عن «مفاوضات ستوكهولم» التي عقدت في السويد خلال شهر ديسمبر/كانون الأول المنصرم، بين الأطراف اليمنية المتصارعة، ما يعني أن «الانتقالي» عجز عن تقديم أي فعل سياسي يلبي تطلعات الجماهير التي دعمته في البداية، وشارك خلاف ذلك، تحت أجندة إماراتية خاصة.
يصطدم مستقبل التواجد الإماراتي جنوبي اليمن والذي بات يعرّف على أنه «احتلال» بعقباتٍ عديدة، داخلية، أكثر منها خارجية، أي أنها تنبع ظواهرها من الجنوب اليمني، وهو ما سيجعل أبو ظبي تعيد حساباتها لترتيب علاقاتها مع المكونات السياسية والقبلية، إن أرادت البقاء. ولربما يكون «المجلس الانتقالي» كبش محرقة، خلال المرحلة المقبلة بما أن الوقائع أظهرت فشله في تبيض صورة الإمارات، وتمرير ممارساتها عنوةً عن الشعب اليمني.
إلا أن التواجد الإماراتي الذي أسس له «المجلس الانتقالي» وأذرعه العسكرية، يضع مصير الطرف الأول في الجنوب اليمني (الإمارات)، متعلّقًا بمصير الطرف الثاني (المجلس الانتقالي)، وما ستؤول اليه أوضاعه في المستقبل القريب، على إثر التحركات الشعبية المتنامية والمتوزعة بين سياسية، وقبلية اجتماعية.