بوح خاص في حضرة القصيدة

حجم الخط
0

بوح خاص في حضرة القصيدة

لو وُجد 001 عاشق للشعر في كل مدينة فلا خوف عليه من التردي: علي كنعانبوح خاص في حضرة القصيدةيطيب لي أن يكون الحديث بسيطا مكثفا يشبه النجوي. لن أخوض في تعريفات الشعر كما يفعل المنظرون وأساتذة الأدب، علي أهمية ما يفعلون في خدمة الشعر وإضاءة زواياه الظليلة أمام طلبة المدارس والجامعات. إنما سأحاول أن أقدم بوحا وجدانيا خاصا في حضرة القصيدة وأمام ثلة عزيزة من عشاقها ومبدعيها. إنه بوح طفل في السبعين عاشر القصيدة طويلا… وأنا أختار هنا فعل المعاشرة بدلا من المعايشة، لأن العشرة تنطوي علي المحبة والمؤانسة والاهتمام. نعم، وبلا حرج ولا تردد أقول: إني عاشرت القصيدة أكثر مما أتيح لي أن أعاشر المرأة الحبيبة، علي اختلاف أنماطها وجنسياتها وأطوار سكينتها وجنونها وألوان أديمها من خلاسية أمريكا اللاتينية حتي الشحوب الياباني الغامض، مرورا وانتهاء بأبهي وأغلي ما في ياسمين الشام من رقة الجمال وعذوبة الوجد ورهبة الانخطاف ولين الحرير وصوفية الماء. يبدأ الشعر حرفه الأول في صرخة الوليد، وهو يعب الهواء في شهقته الأولي؛ فالشعر قلق آسر واحتمال غائم وطموح جميل ومغامرة كثيفة الرهبة مريبة العاقبة.العنوان المطروح علينا الشعر بين الانتشار والانحسار يفتح الباب واسعا أمام ألوان شتي من الآراء والملاحظات. وهنا أود أن أقول إن أمة تتخلي عن الشعر تكون مستعدة للتخلي عن تراثها ومستقبلها معا.. وحتي عن وجودها، لأن الشعر هو التجلي الفني والجمالي للقيم والمثل التي تؤمن بها وتعمل علي نشرها، وهذه القيم هي التي تسهم في بناء مناعتها الروحية والفكرية والوجدانية.العملة الرديئةالذائقة الشخصية لكل واحد منا هي التي تقدر وتستسيغ وتطمئن إلي ما هو شعر، وهي ذاتها التي تنفر من شتي مظاهر الركاكة والادعاء والزبد. وتلك المظاهر لا تعدو أن تكون شطحات مجانية دخيلة لا تملك حق الدخول في ملكوت الشعر. وفي رأيي أن نسبة كبيرة مما يطالعنا في الدوريات الأدبية والمواقع الإلكترونية لا يدخل في باب الشعر ولا النثر، لأنه يفتقر إلي مقومات الكتابة الأساسية وصاحبها أبعد ما يكون عن إدراك سر اللغة وسلامة العبارة وبناء الجملة المفيدة. والسبب الرئيس في ذلك يعود إلي الخلل البنيوي في مناهجنا التربوية، كما يمكن إرجاعه إلي بؤس ثقافتنا وإلي القطيعة مع التراث، علي اختلاف أصوله الأدبية والعلمية والفقهية. النجار والبناء والصائغ يتقن حرفته ويجيد فن استخدام أدواته بعد مران طويل، لكننا نري أن ركاما عبثيا من الكتابة المتهافتة تفتقر إلي أبسط مهارات الصنعة لأن صاحبها لم يجتهد، وربما لم يكترث بفن الكتابة، ولم يصبر علي مشقة السهر ويتمرس بمهارة الإبداع. الكاتب الذي لا يسعي إلي تحصيل المعرفة الكافية والكفيلة بانطلاقه في هذا الدرب الصعب الشائك، يفتقر إلي امتلاك الأدوات، وهو في الوقت ذاته يفتقر إلي الطريقة السليمة في استعمال تلك الأدوات. أليس غريبا أن يكون في مجال الصناعة العصرية علم اسمه “الأمن الصناعي” ولا نري في مجال صناعة الكلمة مثل هذا العلم، ولو من باب الحذر والاحتياط؟ وهل ننسي أن فن صناعة الكلمة أخطر ما عرفت البشرية من صناعات؟! من هذه الزاوية، زاوية غياب التقييم والتقويم، يأتي هذا الطوفان الفظيع في سعة الانتشار. والعملة الرديئة ـ كما يقال ـ تطرد العملة الصحيحة من السوق.لن أتوقف عند هذه النقطة، لأن الكتابة الرديئة تموت ساعة ولادتها وربما قبل تلك الولادة الفجة المبتسرة، وليس لنا أن نضيع الوقت في تفنيدها. سأنتقل إلي الشق الآخر، وهو الانحسار. فأنا لا أري أن الشعر في حالة بلبلة أو انحسار؛ وما يعنيني هنا هو الشعر الجدير بحمل هذا الاسم. إن ظاهرة الاختصاص التي تعد من أبرز سمات عصرنا هي التي جعلت الشعر يبدو في حالة حصار وتأزم وانحسار، مع أن الواقع العربي العام هو الذي يعاني شتي ضروب التأزم والعطب، وهذه الحالة المرضية المزمنة لا بد أن تنعكس علي مختلف مناحي الحياة. كان الشعر ديوان العرب، لكنه لم يعد قائما بهذه المهمة ولا ينبغي له ذلك. إذا كان في كل مدينة عربية مئة عاشق حقيقي للشعر، فهذا يعني أن هذا الفن الجميل العذب ما زال بخير وعافية وازدهار، ولا خوف عليه من التردي أو الانقراض.لكن، ماذا يعني أن يكون الشعر ديوان العرب؟ هل فكرنا في هذه العبارة ودلالاتها؟ هل نذهب مع لسان العرب إلي أن الديوان: مجتمع الصحف؟ أم نتقدم من دواوين الخلفاء والسادة والزعماء ونقارب المجاز فنقول إن الشعر حديث المجالس؟! ولا ننسي أن نشير إلي أن معظم أحاديث المجالس تسليات عابرة وثرثرات جوفاء لا فائدة فيها ولا متعة. إن إمعان النظر في المسألة يطرح علينا سؤالا آخر: هل ينحسر الشعر من الحياة العربية فعلا إذا لم يكن قد انحسر من نفوس الشعراء أنفسهم؟إذا كنا نعني بالشعر كل شيء جميل وعذب ومضيء في هذه الحياة، فحسبنا أن نلقي نظرة عابرة علي مشاهد الدم والدمار في الفضائيات العربية والعالمية. هذا يعني، إذا سمحنا لغمام التشاؤم أن يغشي الصورة، أن الشعر لم ينحسر وحسب ولكنه انتفي من حياة البشر وتلاشي إلي غير رجعة، إنما بنظرة بعيدة متأنية وطامحة، ورغم تراكم المظالم والظلمات، نلمح في آخر النفق الجهنمي براعم تتفتح وضياء نجم بعيد يستقي زيته من بسمات الأطفال ولهفة الأمهات وقلوب العشاق والشهداء وهم في زهوة شبابهم. هكذا يشمخ التحدي ويتجدد الأمل.. وهكذا نتملي هذه النفحات الندية الواعدة، ليواصل الشعر مقاومة الظلم والبشاعة واليباب وتمور في عروقه شهوة الحياة وإرادة الأحرار.ثلاثة نماذجإن الشعر يحتاج إلي حامل.. ونري في واقعنا أن بعض الشعراء جعلوا من أنفسهم ومن أصحابهم منابر إعلام ودعاوة نشطة. وهنا سأضرب مثلا بثلاثة شعراء: نزار قباني ومحمود درويش وأدونيس. ليس في هذا الاختيار حكم قيمة، ولا أعني أن هؤلاء الشعراء طمسوا ذكر غيرهم وحرموهم من الوجود، إنما أري أنهم أكثر شهرة وانتشارا في الساحة…قضية المرأة هي الحامل الذي طار باسم نزار قباني عبر الآفاق. وإذا كانت هذه القضية تثير كثيرا من الجدال، وبخاصة من منظور التقدم والنكوص، فإن حساسية الشاعر المرهفة هي التي التقطت هذا الخيط الندي العذب، كما أن معجمه الشعري ونسيجه الجمالي الخاص، علي بساطة مفرداته وشيوع صوره، أسهما في سعة انتشاره. مع أنني ألاحظ أن الشاعر بدا يكرر نفسه في السنوات الأخيرة، وهذه علة لا أدعي أن أي واحد منا سليم معافي منها، وإن تباينت نسب التكرار والاجترار.وإذا أردنا أن نفتح دائرة النظر علي الظروف الموضوعية فلا بد من القول إن نزار قباني هو الشاعر الرائد في فضاء الحرية الاجتماعية. بعد مئات السنين من الكبت الإقطاعي طوال مراحل الاستبداد العثماني، بدأت آثار الانتداب الفرنسي الذي امتد ربع قرن تترك شذرات من الضوء في العلم والانفتاح علي العصر الجديد. فالبيت الشامي (أو العربي) الذي كان مسورا بالجدران الكتيمة مع الخارج لينفتح من داخله علي السماء وحسب، بدأ طرازا عمرانيا جديدا يمتاز بالنوافذ والشرفات المطلة علي العالم الخارجي. وموضوع الحريم والحجاب شهدا كذلك تغييرا جذريا.وقضية فلسطين، هذه القضية المرتبطة بحرية الأمة وكرامتها ومصيرها؛ فلسطين هي الحامل الذي جعل شعر محمود درويش يمتد علي اتساع العالم. لكن هذا الحامل لا يكفي وحده، ولعل امتياز الشاعر كامن في لغته وتفرده في نسج هذه اللغة. وربما كان وهج شاعريته معرضا للكسوف والخفوت لولا لغته المسبوكة بلمسات سحرية خاصة وحميمة جدا، إذ يشكل منها صورا فنية يتفرد بها فلا نري له منافسا أو نظيرا. وهو يحاول بدأب مدهش وشجاعة مضنية أن يتخطي راهنه بلا كلل أو استرخاء، منذ أن رفض الاستجابة إلي (ما يطلبه المستمعون!) إلي مغامرته المدهشة في تجريب بلاغة البساطة. وقضية فلسطين هذه ليست وقفا علي درويش وحده أو علي شعراء معينين، وإنما هي في لباب خلايا كل عربي، وفي بؤرة اهتمام كل مسلم، وحتي في هواجس عشاق الحرية وأنصار التحرر الوطني في العالم. أما الحامل الشعري لدي أدونيس، وبخاصة في دواوينه الأخيرة، فهو مشروع الحداثة الذي ما زال ملتبسا، لأن الحداثة في الشعر أو الرواية أو التشكيل لا تنسجم ولا تعيش في مجتمعات لم تقارب الحداثة ولم تدخل بعد أولي أساسياتها وأجوائها ومنطلقاتها. المطابخ العصرية لا تصنع شعرا عصريا ولا تبدع فنا معاصرا. وأرجو ألا أظلم الشاعر المتألق أو أنزلق إلي التحامل والمهاترة، إذا رأيت في نسبة كبيرة من شعره الأخير (وخاصة بعد انهيار جدار برلين) إرضاء للقارئ الغربي والمؤسسات الغربية، وبعض هذه المؤسسات ليست بريئة من علة الاستشراق والتعصب العنصري.المرآة والصورةوهنا لا بد لي من التوكيد أن حامل الشعر عند هذا الشاعر أو ذاك هو حامل ذاتي واجتماعي وحضاري في الوقت ذاته، ما دام الشعر جوهر كل إبداع إنساني حضاري. إن القيم التي تشكل هاجس الشعر العربي ورسالته الحميمة هي التي أعطته مكانته المتميزة علي مر الأجيال. وربما أدي تردي الواقع العربي وضياع المعايير والقيم، إضافة إلي غياب الأمة عن الإسهام بالفعل الحضاري (وهو تغييب منهجي مدروس، يقوم فيه تخلفنا بالقسط الأكبر…)، أقول: ربما أدي ذلك إلي وقوع الشعر في منطقة الوهن والكسوف. فهل نتخلي عن هذا الكائن الجميل لأن أمراض الواقع العربي تريد ذلك؟ أذكر لقاء جري (في مجلة نيوزويك الأمريكية) مع كاتب إفريقي مناضل أمضي في سجون العنصرية سنين قاسية، وحين سأله المحرر: “هل ستستمر في النضال أم أنك ستستريح؟”.. كان الجواب المدهش: إذا لم تعجبك صورتك في المرآة، فهل تحطم المرآة أم تسعي إلي تحسين الصورة؟! تلك هي روح الشعر.. أن يستمر في المقاومة دفاعا عن جمال الحياة ومناخ العدالة والحرية والعافية والتعايش السلمي المتكافئ والآمن بين أبناء الأرض كافة.ولكن، بعيدا عن ثنائية الانتشار والانحسار، أود أن أعترف أن جمهور الشعر لا يشغلني ولا يعنيني، إنما يعنيني قارئ الشعر. فالقارئ الجاد المتأني يعيد إنتاج القصيدة، ويجدد وهجها وحرارتها، ويستكمل بناءها بقدر ما يستقي منها المتعة والفائدة. هناك جمهور للمسرح والرياضة والسينما وما يطلبه المستمعون أو المشاهدون، لكن ليس للشعر جمهور كما كان في الماضي.. ولا ينبغي أن يكون له ذلك. فالشعر لا يحتاج إلي مصفقين. يكفيه أن يتمتع بقراء معدودين بالمئات أو بالألوف – علي امتداد الوطن العربي.قارئ الشعر هو العاشق الذي ألمَّ إلماما جيدا بتراث أمته الشعري والنثري، وسعي بجد واهتمام واصطبار إلي الاطلاع علي روائع الشعوب الأخري. وقارئ الشعر هنا هو الشاعر، بالقوة أو بالفعل. ومن المفارقات أن نري في مجتمعاتنا عشرات الألوف من المتعصبين لشعر التراث المبني علي البحر الخليلي، لكن هؤلاء لا يكلفون أنفسهم عناء القراءة المتأنية والتأمل العميق ومعايشة الشاعر في لحظات الإبداع. إنهم يكتفون بسماع الإيقاع والاستمتاع به، كما اعتادوا أن يستمعوا إلي الأغاني الدارجة. الشعر عندهم حالة صوتية منغومة، لا أكثر. ويبلغ البؤس غايته حين تكتفي كتب الشعر بشرح المفردات، وكأن الشعر مجموعة من الأفكار المتراصفة، بمعزل عن المشاعر العميقة والدلالات المتنوعة والإيحاءات الخفية الموشاة بكثير من الظلال واللمسات الملونة الغامضة.عالم بلا أسئلة!قبل أكثر من ألف عام، قال أبو العلاء المعري:أيُّها الغِرُّ، إن خُصِصتَ بعقلٍ فاسألنْه.. فكلُّ عقلٍ نبيُّنحن في مجتمعات لا تبيح لأطفالها حرية التساؤل والسؤال! كل قصيدة من المعلقات أو من شعر الصعاليك أو العصر العباسي الأول تستأهل منا سهرة مستقلة لنتقرَّي فيها مغامرة اللغة، فضلا عن فرادة التجربة ورهافة الرؤي وطلاقة الخيال. وسأكتفي هنا بإشارة لغوية سريعة إلي الشنفري في رائعته التي يمجد فيها عالم الحيوان وما فيه من ألفة وتراحم ومسالمة ويؤثر العيش فيه علي عالم البشر وما فيه من جور وحقد وطغيان… يقول الشاعر: أديم مطال الجوع حتي أميتهوأضرب عنه الذكر صفحا فأذهللنتأمل هذا الفارق الكبير بين بنية الشطر الأول، حيث اختار الشاعر خمس كلمات ممدودة بحروف العلة، ويشعر القارئ أن أنفاسه تتقطع قبل أن ينتهي من قراءته. أهناك أقسي من مقاومة الجوع؟! لكن الشطر الثاني خالٍ من أي مد، فإرادة الشاعر سرعان ما تنأي به عن ذكر ما يعانيه حتي ينساه أو يفقد إحساسه به من شدة الطوي وطول المكابدة. ونعيد التأمل في أحرف العلة الثلاثة في الكلمات الثلاث الأولي. بدأ بالياء في (أديم)، ومن قاع هذا الكسر العميق انطلق صاعدا إلي ذروة الفتح مع الألف في (مطال) ثم انتهي بواو (الجوع)، هذا التناوب العفوي والاتساق المدهش والتوازن العجيب بين الحركات الثلاث وأحرف المد الثلاثة بكل دلالاتها وإيحاءاتها وتأثيراتها.. لا يأتي بها إلا شاعر عبقري أصيل لا تنفصل حياته عن شعره، بل ينصهران معا ويشكلان كلا واحدا. ولا بد أن أشير كذلك إلي مرارة السخرية من العلاقة التجارية بين الدائن الربوي والمدين العاجز عن الوفاء في كلمة (مطال)، ومن ثم (موت) هذا الدَّين بعد ذلك. كيف استطاع الشاعر أن يطفر خارج نفسه ليستحضر لنا ذلك الموقف الساخر والموجع، وكم رآه يتكرر في عكاظ وغيرها من أسواق جزيرة العرب؟!ولا بأس أن نتجاوز تلك المراحل الذهبية لنقف مع المتنبي مثلا، ونحن جميعا نعلم أنه واسع الانتشار جدا وأن ذكره علي كل لسان. إن قلة نادرة من قرائه يمكن أن يتوقفوا عند روائعه الكثيرة.. فلنقف لدي قصيدة الحمي، مثلا: أهي حمي مرضية أصابت جسم الشاعر فعلا أم هي حمي وبائية أصابت المجتمع كله من حوله؟.. حين أعود إلي تلك القصيدة وغيرها من القصائد التي قالها الشاعر وهو في حصار كافور، أو قبل ذلك، فإني لا أملك إلا العجب والاستغراب والرهبة. أول قصيدة مديح لكافور يبدؤها بهذه الصورة المخيفة، صورة الموت، إذ يقول: كفي بك داء أن تري الموت شافيا وحسب المنايا أن يكن أمانياأي مديح هذا.. بل أي شعور صاعق أن تصل الحالة النفسية من اليأس لدي الشاعر إلي هذه الدرجة المتردية التي لا شفاء منها إلا بالموت، ولكن الموت يغدو أمنية للخلاص، أمنية مستحيلة لا تنال!خارج ثنائيةالانتشار والانحسارفي مناخات صحية وأجواء حضارية متفتحة، يكون المستوي الشعري هو المسؤول عن سعة الشيوع والانتشار. أما في ظروفنا المعتلة، فلا أري من خسارة أو حرج في أن ندع مسألة الانتشار والانحسار جانبا، فهذه أعراض وأحوال وتقديرات تصلح للاستطلاعات الصحافية واستكشاف ميول الطلبة أو مستوي تحصيلهم. ولا ريب أن بحث هذه المسألة لن يسهم في تحسين حالة الشعر وتعزيز مكانته في المؤسسة أو المجتمع، إنما هو وسيلة ومدخل للتفكير بصوت مسموع وإمعان النظر وتبادل الرأي في شجون الشعر وشؤونه، وفرصة للاحتفاء به، وصولا إلي منظومة القيم الإنسانية والجمالية والحضارية واللغوية والروحية التي يمثلها هذا الشعر.والعودة إلي موضوع الشعر تعني تركيز الاهتمام علي القصيدة… علي تلك الحالة الوجدانية الخفية التي تشكل القصيدة وتسويها كائنا عجبا، كائنا شعوريا فنيا جماليا، منسوج الصور من خيوط الكلمات وألوانها، وهي صور مفعمة بالإشارات والرؤي والدلالات، مشرعة علي شتي المقاربات والاحتمالات. تبدأ ملحمة جلجاميش بالقول: هو الذي رأي… .الرؤية في المعاجم متعددة المعاني، فهي تعني البصر والبصيرة والرأي والحلم والشهادة والتقويم… إلي آخر ما هنالك من معان رضعناها مع حليب الأمهات وارتشفناها من أباريق المدارس والجامعات ومجالس الأنس والسمر. لكنها في الشعر تغادر حدودها المعجمية وتنزاح لتكتسب دلالات وإيحاءات وأبعادا مختلفة.إن وفرة الإنتاج الشعري لا تعني جودته. الموسوعة الشعرية صارت تحتوي علي ثلاثة ملاين ونصف المليون بيت من الشعر، يكفي أن يكون ثلثها أو ربعها ذا مستوي جيد. صاحب اليتيمة، كعب بن زهير، البوصيري، لقيط بن يعمر الإيادي، مالك بن الريب، ابن زريق البغدادي، المقنع الكندي، حاتم الطائي.. وغيرهم كثير، هؤلاء معروفون بقصيدة واحدة. وهذا يؤكد أهمية المستوي. الشعر يشكل، في رأيي، روح الأمة. ومن هنا تبدو ترجمته عسيرة أو شبه مستحيلة لأن الأرواح لا تترجم. وتحضرني هنا عبارة للصديق الشاعر فرج بيرقدار الذي قضي أربع عشرة سنة في أقبية السجن السياسي. يقول الشاعر: كلما قرئت قصائدي مترجَمةً شعرت بالانقباض. رموز وإحالات لغوية وتاريخية كثيرة لا بد أن تُفقِدها الترجمة الكثير من ظلال معانيها وجمالياتها… .ومثل آخر من أقصي الشرق والغرب. يشكل الهايكو الياباني أصغر قصيدة في العالم. القصيدة مؤلفة من سبعة عشر مقطعا موزعة علي ثلاثة أسطر: خمسة، سبعة، خمسة. ولهذا الشعر قواعد صارمة، ومنها أن كل قصيدة ينبغي أن تحتوي علي كلمة أو إشارة تدل علي الفصل الذي كتبت فيه. لكن حياة الاستهلاك، والطريقة الأميركية التي استطاعت أن تغوي العالم وتشده إلي أحضانها وتعبث بكل جميل، جعلت هذا الشعر لعبتها. فحين تقرأ الهايكو الأميركي تشعر بأن ثورا بريا هائجا دخل روضا من الأزهار ليحيله قاعا صفصفا. وإذا استثنينا بعض الشعراء المخلصين في محاولاتهم الصادقة في كتابة قصائد قصيرة، فإن طبيعة اللغة الإنكليزية وخصائصها لا تسعف بتقليد الهايكو، وبخاصة أن اللغة اليابانية مقطعية. فلسطين الوجودأود أن أقول إن بعض الترجمة أو كثيرا منها يسهم في بلبلة الشعر وتهافته. وإذا أردتم أن أتحدث في الهواجس الخفية الكامنة وراء ولادة قصيدتي والداخلة، بشكل أو آخر، في سدي نسيجها ولحمته.. فأنا أري أن جرح فلسطين، في واقعيته ورمزيته وفجائعيته، غائر في أعماق وجودي ووجداني، سواء شعرت بذلك وعبرت عنه بصور واضحة مكشوفة، أو تواري مطموسا في غياهب اللاشعور ليوشي الكلمات والرؤي بمسحة من الأسي الأندلسي والشجن البابلي الشفيف.قبل فلسطين، كانت الأندلس التي ترسبت ذكرياتها في القاع وتحولت إلي أطياف رومنسية غاربة… وقبل فلسطين وبعدها ومن خلال حضورهما الأثيري الحار الموجع والموَّار في خلجات الوجدان وكيمياء الخلية.. تنبثق قضايا الحرية والعدالة والخير والجمال.كنت أطفو سؤالا لجوجا علي غبش العاشرةيوم جاءت فلسطين إلي دارناواستراحت قليلا علي صدر أميتجدد لون الحليب وطعم الحليبوتدخل في صيغة الروح، تدخل طيَّ نسيج الهواءيومها اختمرت أرضنا.. وجوانحنا..بالعذاب الجليل.فلسطين لم تكن يوما عنصرا خارجيا أو ملحقا بشعر جيلنا، إنها نسغ الشعر ونبض الشعور وأنفاس الكلمات. والحكمة الهندية تقول: ليس مهما أن تري النار الموقدة أو تري الثمار علي الشجرة، لكن المهم أو الأهم أن تري النار في قلب حجر الصوان وأن تري الشجرة في نواة الثمرة.. وتلك هي فلسطين في كوامن الشعر. أذكر أني عانيت المرض في صباي أربع سنوات متواصلة، ثم زار دمشق جراح فرنسي في ربيع 1956، وكان أن أودعت في جيرة بردي خمس قطع من أضلاعي وشطرا من رئتي اليسري. وعندما أتذكر طبيعة الشعر، تتداعي صور علتي القديمة وأدرك أن اغتصاب فلسطين أخذ قطعة من حبة القلب وضياء العين وجوانح الروح.. وكان الشعر هو المحرقة وهو البلسم والعزاء. كيف يتخلي الإنسان عن روحه أو يستهتر بها؟ ذلك ما لا يمكن التعبير عنه. ليس الشعر بيانا حزبيا ولا أعطاف راقصة أو قهقهة مهرج أو قفزة بهلوان يتنقل برشاقة فوق الحبال. إنه لغة الأعماق الدافئة، خلجات المشاعر الحميمة. وهو شجرة الجمال الحضارية التي لا تنحني أمام الأعاصير ولا تقوي الزلازل أن تميد بأرضها، كما أن الصواعق لا تستطيع كسر أفنانها أو التهام أزاهيرها. الشعر نضرة الحياة ونور الاكتشاف وهواء العافية. وإذا كانت رسالة المعلمين أن يعملوا علي تربية الذائقة لدي الأجيال بالرسم والشعر والموسيقي، فإن مسؤولية المبدعين تقضي بالعمل الجدي الدؤوب لحماية هذا الوجه البهي المشرق من الحياة في أغلي تجلياته الجمالية وأصفاها.كاتب من سورية0

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية