«آلام ذئب الجنوب» ومشروعية الكائن الجديد

أحمد البرهو
حجم الخط
0

من الجنوب، جنوبِ الردّ، حيث ذئبة الرّد، تنحدر من سنجار إلى بيوت الطين المُتَمَدِّدة على سهل يشتهي احتضان النجومُ، وحيث ثمّة أقمارٌ مكسورة ممّا خلّفتْه الطائرات، تنطلق حكايا: «آلام ذئب الجنوب». «في الليل أوقظ التلال، أشعل في رأسها النار/ ألوّحُ لبيتي الطيني تلويحتي الأخيرة» عبر بوابات ثلاث كبرى يشيّدُ السوري محمد المطرود مقترحه الجديد: أولى للجنوب، وثانية لأنوات الذئب المظفر بآلامه، وثالثة للمؤنث تتوزّع جغرافيا فكرية واجتماعية تلظمها إبرة الأنثى بخيط الحنين/ النوستالجيا الذي يكابده السارد، والحنين سكّين حادّة، كما يذكر المطرود. شاءت روح النّاص تسمية جديدها بـ(آلام ذئب الجنوب)، وأن تحدد إلى أي جنس أدبي هو منتمٍ فكانت (ميتاروائية) ما بعد طبيعة الشيء وما قبل النهايات بكثير كان ثمّة بداية ما.
في مؤلّفِه يشي بملامح ذاتٍ مصرّة على حقيقة وجودها: «أنا ابن صحراءٍ وهذا الأخضر لا يشدُني». في مثل تلك الجمل المباشرة من جهة، والمستفزّة من جهة أخرى، يعلن عن ذاته ذئباً غير آبه بسنن الرعيان: «يا سيِّدي الذئب فدتك كلاب القطيع كلها» فلا تكاد هذه الذات تمنح مباركتها الكاملة للكائن الأخضر قبل أن يضع بصمتها في تشكيله النهائي، عودة إلى البدايات تؤَمِّن للذئب/ الكاتب أدنى عتبات التفاهم بينه وبين جهة يراها متوحشةً، وأمام مرأى حلّابة الغيم يُعلِنُ عُريه» أنا رجل بلا ظلٍ، وسعيدٌ بهيئتي لأكون ابنا حديدياً، ما عادت الأجسام القديمة تفي هذه الأرض حقها» في مراوغة على هيئة دعوة للبدء أكثر منها تسليماً منه بحكاية الحديد. ربما!

اللُّغة:

السرد يتراوح بين واقعية شديدة الخصوصية الاجتماعية، حتى ليُخَيَّلُ أنها مجاز، كوصف جسد فتنة الحار، المُعطّر بالحشائش، المرصود التمائم (قلب الذئب، لسان الثعلب، وكبد ابن آوى)، تلك ميِّزة تُحسب للنّاص راصد المشهد الواقعي بدقة عالية، وبين لغة شعرية عذبة شهية: «يا حلابة الغيم، يا ندب الفصول كلها، يا رهج الضحكة في الفلوات»، لغة ملحمية تحيل إلى صفات طابعها وجودي أكثر منها خطابا للكائن المحدود، بدورها تحيلك إلى شخصية حضارية عميقة راكمها المؤلف.
تحضرُ الشعرية في عنونة النصوص كـ(حروبي السبع مع النسيان) و(أسبوع الملك) ليفصحَ كل باب عن أبوابٍ أخرى، هي الأخرى تنفتح على غيرها في شكل يخدم سياقات مضمرة لمقولة منفردة لكل نص بمفرده، ثم المقولة الكبرى لمجموع النصوص تبدو متلاحمة شكلاً ومضموناً.

مناخات السرد:

كهويّة أولية ثابتة يطمئن إليها (الذئب/السارد/الراوي) فالطبيعة المادية المتفرّدة لـ(جنوب الرّد) حاضرة بقوة في الفصل الأول (بوابة الجنوب ـ جهة الجنوب)، حيث الذئب والكلاب والمرياع والغيم والمطر القليل ورفوف القطا قرب نزيز الماء، وسواه مما تشرَّبته روح الكاتب ابن المكان. في حين حضرت الطبيعة كذات اجتماعية في الفصلين التاليين (أنوات الذئب المظفرة بالآلام) و(بوابة المؤنث) على شكل ممارسة جماليةٍ، عاطفةً وفكراً: الحنين يلهج بصوت مرتفع في ظهورات الطبيعة الاجتماعية أيضاً التي تُمارس ذاتها بعمق، شاهداً مؤكِداً على الهويّة في ظل تجاهل سماوي وأرضي عبر شّحّ الأمطار والسلطات ـ بإشارة المطرود هامشاً ـ بيوت الطين، دخان المدافئ المشتعلة بروث الدواب، البئر، الورّادات والحلابات، الابن والأب والأم، الفارس والصياد والطريدة، وطبيعة فريدة من العلاقة بين الإنسان والطبيعة (المرجع): (البدويات يتعلمْنَ من سِرب القطا حيلهنّ)، كذلك سيكون معنى ممارسة تلك الذات بوجودها الأدبي والجمالي في بُعْدٍ آخر متمثلاً في المناخ الأسطوري الذي تستدعيه غنائية الراوي لتُثبت مشروعيّة وجودها الجمعي الفريد كيف لا و(البدويات سليلات زوابع) وهو الراوي/السارد ابنهن الذي قرأ نبوءة عن الدِّفء في معنى البيوت المتلاصقة، ومخاوفه التي تحققت بالفعل. أعراس الجان في الحكايا الشعبية المتوارثة، وظَّفها المطرود ليجمع عناصر المناخ الطبيعي والاجتماعي في منظومة حياة مميّزة لكائن أسطوري وُلِدَ من زواج جحيم بأرملة الأمنيات في إطار ملحمي يحمل ديمومة متوارَثة وفق مرتسم: الطفل ـ دراجته ـ الهواء ـ التلة/ الفارس ـ فرسه ـ الريح ـ المرأة.

تميل روح السارد إلى أن الأبيض لون الحزن، مخالفةً حضارةً تملي عليه مشاعر مسبقة الصنع، وهو، هنا بالذات، يتطابق جمالياً والرؤية الجمالية للشخصية العربية البدوية العتيقة، بطريقة لم ألمس قصديّة مسبقة تؤذيها مطلقاً.

الألوان:

تميل روح السارد إلى أن الأبيض لون الحزن، مخالفةً حضارةً تملي عليه مشاعر مسبقة الصنع، وهو، هنا بالذات، يتطابق جمالياً والرؤية الجمالية للشخصية العربية البدوية العتيقة، بطريقة لم ألمس قصديّة مسبقة تؤذيها مطلقاً. ليعلن في مكان آخر خوفه من الأخضر الداكن/ الحديدي، المرادف، ربما للمدينة المكتظّة، ربّما أتوهم، إلا أنه في نصوص أخرى يتعاطف مع الأخضر بوصفه هوية الحبيبة الجبلية، وينساب في مكـــــان آخر مع الأخضر المائل كسطر حيث يزيِّنُه بحضور أنثى وتونــــس، حتى ليكادُ يحيلُ إلى لفظة بعيدة لكنّ بهاءها يجعلني أتوهم حضورها أعني:(الحرية) لما تشربت بمفهومها الحديث من حضور الأخضر كلون وتونس كمنطلق للثورات.

الأنثى:

وإن تعددت صورها، أميل إلى أن أنثى المطرود تحيلك إلى واحدة عظيمة تُغطّي مساحة النوستالجيا وتؤثث البدايات، هي (فتنة) المتعددة الحضور، وفتنة لا معنى سلبياً تحمله في مجتمع كل إناثه فتنة للقلب حتى يجيد الخصب، حسب ذائقة المطرود/الذئب/ المجتمع، فتنة تلك لا شاهد في النصوص يؤكد أنها ليست إحدى الحلابات، أو إحدى الورَّادات أو الحطّابات أو كلهنّ، بل ثمة ملامح مشتركة تشير إلى أنها/هنّ ذات كبرى، أو قبيلة بكلّها كما قاربها المطرود قولاً. إحدى البدويات أو كلهنّ الحاضرات، ليس جسداً شهياً وحسب، بل هنّ مؤسِّسات للثقافة، وأمينات على ثوابتها:» البدويات نشيد طويل على وتر واحد، يجتمعْنَ في الشاعر والوتر، ثمَّ ينسجْن من الغبار القديم الزوابع»، ولهذا تُفرَدُ لها بوابة بأسماء متعددة (فاطمة ـ هبوب ـ غزالة) بل هي ذاته التي كسرت كل تمايز بين المذكر والمؤنث في لحظة القبض على المعنى في نص بعنوان: (أنا ذئبة نفسي). وتحت عنوان: (ظل غامق للبهية) يكشف أحد معاني الحضور الأنثوي وأثره، حيث تملأ الأنثى البياض بكامل حضورها فيتصالح، كذكر/رجل، مع الحاضر الممتلئ: «المؤكد أني أحبك، ما عدا ذلك من الكلام سيكون رجلاً غيري يلوّح لامرأة تشبهك».
يذهب أنطوان سعادة في كتاب «الصراع الفكري في الأدب السوري» إلى أنَّ تجديد الأدب، من حيث كونه وسيلة لإبراز الفكر والشعور، مرتبط بتجديد الحياة، فالتغيرات والانقلابات السياسية يعقبها تغيُّرٌ في الأدب وأساليبه، وحسبه: الكتابة مسببٌ لا سببا. إن ارتباط اسم الكائن الجديد (ميتاروائي) بالرواية تدفعنا، بداية، باتجاه ضرورة فهم العلاقة بين الرواية، كمنتج فني حداثي والمدينة حسب مفاهيم الحداثة ومقولاتها الكبرى في الفن والجمال من جهة، وبين ما بعد الحداثة وما يمكن أن يفرزه من مقولات جديدة، كذلك فإن مصطلح (ما بعد الحداثة)، ذاته، يحيل إلى توجهين افتراضيين، فهو نكوص إلى ما قبل من طرف، كما هو تطلّعٌ إلى ما يلي من طرف ثان. ففي حين أننا كشعوب متنوعة، نعيش معاً عصر الفضاء الإلكتروني الذي كاد أن يجعل العالم قرية إلكترونية واحدة، إلا أننا لا نستطيع نكران أنه عصر ينطوي على مقولاتٍ واضحةٍ في تعبيرات الرفض (لا أريد هذا) في ما لم تكد بعدُ ملامح (ما يُرادُ بالذات) قد أمنّا لها، إلا أنّ هذا المخاض الاجتماعي الفكري العالمي يحمل في طياته أدوات التأثير العميق في نفس المبدع المتوتر على وجه الخصوص، وهو الجهة الأكثر كفاءة، ومن شأنها طرح تصوّرات ناتجة عن تفاعل أدوات إبداعية شديدة الحساسية مع تاريخ وواقع.
ليس من السهل أن نسلِّم بالنتيجة الحتمية حول ولادة كائنٍ جديدٍ بالضرورة السياسية والفكرية، إلا أن ذلك لا يمنع محاولة تلمّس إرهاصات حدوثه أيضاً، لذلك سأكتفي بما توصلته في (آلام ذئب الجنوب) :1 ـ السارد هو الراوي في ما قد يرد من حكاية وهو الذات العميقة الجذور والمتعددة الحضور 2- تجلّى المؤنث متحدا مع المذكر في أكثر من موضع 3- إنّ السمة المؤكَّدة لنفسية السارد/الراوي/ المطرود/الذئب/ة هي أنها نكصت إلى الوراء لا لتجثم هناك، بل لتعبره 4- ثمة توجهٌ مكينٌ يترافق مع كلّ عودة افتراضية، يتنامى معها نحو العبور، ليبدو التنامي متناسقا ضمن وحدة التوجه العام 5- السمة الأخيرة تتفق، من حيث كونها أسلوباً، مع النصوص في (الكتب المقدسة) من جهة الرغبة في عدم التناقض بين الأنساق الثقافية داخل الجملة/ مجموع الجمل/ النص /مجموع النصوص.
٭ صدر الكتاب عن دار ميسلون للنشر والتوزيع في اسطنبول. في 120 صفحة من القطع المتوسط.

٭ شاعر وكاتب سوري

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية