تقول لازمة النشيد الوطني الجزائري، المكون من خمسة مقاطع: «وعقدنا العزم أن تحيا الجزائر». وتقول كلمات المقطع الثاني في هذا النشيد: «نحن جند في سبيل الحق ثرنا، والى استقلالنا بالحرب قمنا، لم يكن يُصغى لنا لما نطقنا، فاتخذنا رنّة البارود وزنا، وعزفنا نغمة الرشّاش لحنا،..وعقدنا العزم أن تحيا الجزائر، فاشهدوا…فاشهدوا… فاشهدوا».
ها نحن نشهد. لكن مع التعديل الواجب، تماشيا مع الظروف، ومع ما استجد من تطورات، وأهمّ من ذلك: طبيعة ونوعية المستهدف من ثورة جماهير الشعب الجزائري.
كلمات هذا النشيد التي كتبها شاعر الثورة الجزائرية، مفدي زكري، سنة 1956، ايام احتدام الثورة المسلحة ضد جيش الاستعمار الاستيطاني الفرنسي لأرض الجزائر، كانت ملائمة تماما للظروف، ولمواجهة وقتال العدو. كان هدف الشعب الجزائري التحرر والاستقلال، وكان العائق هو العدو المستعمِر، وقطعان مستوطنيه. اما في أيامنا هذه، فالهدف هو الديمقراطية، ومحاربة الفساد، والعائق ليس عدوا، بالمعنى الحرفي للكلمة، بل فئة فاسدة من ابناء الشعب، التفّت حول رئيس عاجز، بكل معاني الكلمة.
هذا فرق جوهري. فاذا كان دحر الاول يستدعي «رنّة البارود» و«نغمة الرشاش»، فإن دحر الثاني يستدعي وعي الجماهير وتكاتفها ووحدتها ونزولها بمئات الآلاف والملايين من اهل البلاد واصحابها، لرفع الصوت الموحَّد المُطالِب بالتغيير والمحاسبة، وبالديمقراطية والشفافية، وتداول السلطة عبر صناديق الاقتراع، في انتخابات حرة ونزيهة.
في ستة اسابيع فقط، خرجت خلال ايام الجمعة فيها، جماهير الشعب الجزائري الى الشوارع والميادين، في مسيرات ومظاهرات سلمية، غير تخريبية ولا دموية، حققت هذه الجماهير انجاز المرحلة الاولى الضرورية: استقالة الرئيس، وانفراط عقد الدائرة المحيطة به.
حدث مثل ذلك من قبل في تونس. ولكنه تم بفرار الرئيس، زين العابدين بن علي، الى منفاه في السعودية. وحدث مثل ذلك من قبل في مصر، وتنحّى الرئيس المصري، حسني مبارك، ولكن ذلك تم بعد مواجهات دموية مع اجهزة الامن والشرطة، وراح ضحيتها مئات القتلى وآلاف الجرحى.
ما جرى في الجزائر، (حتى الآن على الاقل)، مختلف. قدّم الرئيس الجزائري، عبد العزيز بوتفليقة، استقالته الى رئيس المجلس الدستوري، وكتب في رسالة الاستقالة هذه: «إن قصدي من اتخاذي هذا القرار ايمانا واحتسابا، هو الاسهام في تهدئة نفوس مواطني وعقولهم لكي يتأتى لهم الانتقال جماعيا بالجزائر الى المستقبل الافضل الذي يطمحون اليه طموحا مشروعا».
ختم الرئيس الجزائري المستقيل كتاب استقالته بما يمكن اعتباره براءة ذمة لتاريخه، حيث يقول: «يشهد الله جل جلاله على ما صدر مني من مبادرات واعمال وجهود وتضحيات بذلتها لكي اكون في مستوى الثقة التي حباني بها ابناء وطني وبناته، إذ سعيت ما وسعني السعي من اجل تعزيز دعائم الوحدة الوطنية واستقلال وطننا المفدّى وتنميته، وتحقيق المصالحة فيما بيننا، ومع هويتنا وتاريخنا».
خرجت الجزائر من «خريفها» سنة 1992، ودخلت «عشرية شتاء جزائري اسود»، انتهت في العام 2002، ليبدأ فصل ربيع جديد، تنبت فيه البذور، فنرى الزهر هذه الايام، وننتظر الثمار. فهل اقتربنا من نهاية «عشرية شتاء عربي اسود» نرى فيه بداية «فصل ربيع عربي حقيقي»، وننتظر الثمار
هذا الرئيس الجزائري المستقيل، المولود في مدينة وِجدة المغربية، عام 1937، جدير بكلمة حق تقال فيه وعنه، وعن تاريخه الطويل والحافل بمتناقضات وفترات صعود وهبوط عديدة. فقد التحق بالثورة الجزائرية منذ انطلاقها عام 1954، وتسلم خلالها مواقع متقدمة، ومع انتصار الثورة، واستقلال الجزائر، بعد 132 سنة من الاستعمار الاستيطاني الفرنسي، وتسلم قائد الثورة الجزائرية، احمد بن بيلا، لرئاسة الحكومة الجزائرية الاولى، (حيث تم تعيين عباس فرحات رئيسا للجمهورية، الى حين اطاحة بن بيلا به، وتسلمه لرئاسة الجمهورية، تماما كما حصل في مصر من قبل، بين جمال عبد الناصر واللواء محمد نجيب)، عيّن بن بيلا الشاب عبد العزيز بوتفليقة، وزيرا للشباب والرياضة والسياحة، ولكنه عاد وتولى بعد عام واحد، بقرار من بن بيلا، منصب وزير الخارجية، وهو في السادسة والعشرين من العمر، وكان بذلك الاصغر سنّاً في العالم الذي يتقلد مثل هذا المنصب. وبقي في ذات المنصب في حكومتي بن بيلا الثانية والثالثة. الا انه اقيل اثناء هذه الحكومة الاخيرة، اثر خلاف مع الرئيس بن بيلا، وقالت الاشاعات، حينها، انه تلقى صفعة على خده من بن بيلا. هذه الصفعة، حسب تلك الاشاعة، ولدّت لديه حقدا، دفعه للتقرب من قائد الجيش في حينه، هواري بومدين، وكان من اقرب المساعدين له في انقلابه على الرئيس بن بيلا، في حزيران/يونيو 1956، حيث تسلم بومدين الرئاسة ومنصب رئيس الحكومة، واعاد تعيين صديقه وحليفه، عبد العزيز بو تفليقة، وزيرا للخارجية، في حكوماته الثانية والثالثة والرابعة والاخيرة.
بعد اشهر من وفاة الرئيس بومدين، في كانون الثاني/ديسمبر 1979، تم عزل بوتفليقة من وزارة الخارجية، ونُشرت اخبار واقاويل حول عمليات فساد الصقت به، فغادر الجزائر الى منفاه الطوعي في سويسرا، ثم في دبي في الامارات العربية المتحدة، الى ان عاد الى الجزائر، بعد اصدار الرئيس الجزائري الاسبق، الشاذلي بن جديد، لقرار رئاسي بالعفو عنه، وترشح للرئاسة في العام 1999، في «انتخابات» دعمه فيها الجيش، وانسحب المنافسون الستة له في تلك الانتخابات احتجاجا مسبقا على ما اعتبروه تزويرا مسبقا في تلك الانتخابات التي جرت بمرشح واحد في النهاية، هو عبد العزيز بو تفليقة. ونسجل، في هذا السياق، ان بوتفليقة انتخب رئيسا للجمعية العامة للامم المتحدة عام 1974، وهي الدورة التي القى فيها الرئيس الفلسطيني الخالد، ياسر عرفات، الخطاب الاول في الامم المتحدة، «خطاب البندقية وغصن الزيتون».
يُسجّل للرئيس الجزائري المستقيل، انه تمكن في غضون فترة قصيرة من تسلمه للرئاسة الجزائرية، انهاء عقد كامل، يسَمّونه في الجزائر «العشرية السوداء»، وهي حقيقة كذلك، حيث اندلعت هناك حرب اهلية بالغة الدموية، في مطلع سنة 1992، اثر الغاء نتائج الانتخابات البرلمانية الجزائرية التي كشفت تقدما وفوزا مؤكدا لـ«الجبهة الاسلامية للانقاذ» على «جبهة التحرير الوطني»، فما كان من تلك الجبهة الاسلامية، ومن فصائل تناصرها تتبنى افكار الاسلام السياسي، الا ان بادرت الى اعمال عنف بالغة الدموية، وكان اكثر جرائمها بشاعة اعتماد البلطات والسكاكين في قتل وتقطيع اجساد عائلات بكاملها في قرى واحياء اتهمت بمناصرة الجيش. ومع تسلم بوتفليقة للرئاسة في الجزائر عام 1999، اصدر قانون عفو عام، فبدأ عدد كبير من المقاتلين في الانسحاب والاستفادة من قانون العفو، وبدأت جماعات الاسلام السياسي في حلّ نفسها والاختفاء، الى ان اختفت نهائيا بحلول العام 2002، باستثناء فصيل اطلق على نفسه اسم «الجماعة السلفية للدعوة والقتال» التي انضمت في اكتوبر/تشرين الاول 2003 الى تنظيم القاعدة. وبهذا التصرف الحكيم لبوتفليقة انتهت تلك «العشرية السوداء».
اطلقت أمريكا والغرب عموما، على ما شهده (ويشهده) العالم العربي، بدءاً من تونس، ووصولا الى مصر وليبيا والبحرين وسوريا واليمن، اسم «الربيع العربي»، وهو الاسم الذي تبناه كثير من العرب. هو ليس ربيعا. هو خروج من «خريف عربي» الى «شتاء عربي» فيه خير عميم للمستقبل، وفيه عذابات ومعاناة مواجهة اعاصير واوحال وزمهرير، لا بد منه للوصول الى «ربيع عربي» حقيقي. خرجت الجزائر من «خريفها»سنة 1992، ودخلت «عشرية شتاء جزائري اسود»، انتهت في العام 2002، ليبدأ فصل ربيع جديد، تنبت فيه البذور، فنرى الزهر هذه الايام، وننتظر الثمار. فهل اقتربنا من نهاية «عشرية شتاء عربي اسود» نرى فيه بداية «فصل ربيع عربي حقيقي»، وننتظر الثمار.
دعونا نتفاءل. ومن قال ان التفاؤل عيب؟؟.
كاتب فلسطيني
اكبر انجاز حققه بوتفليقة هو انجازه تلك المصالحة ، وكذلك بتبرءة الجلادين وادانة الضحايا ، وتقسيم 1200 مليار دولار بين أفراد عاءلته وزمرة من رجال المال وجنرالات فرنسا .
للتصحيح التحق بالثورة سنة 1956