يعرف الذكي كيف يكتب تاريخه، يؤلّفه كما تُؤَلّف القصص التي يتناقلها النّاس، ويُطلقها كما تُطلَق الإشاعات، لكنه لا يعطي شرعية لكل بطولاته الوهمية إلاّ حين يدوّنها. التدوين أخطر من كل أنواع الثرثرة، التدوين يتحوّل إلى تاريخ.
ترى كم من كاتب أعاد صياغة حياته؟ وتنصّل من حياته السابقة كما تفعل الحية مع جلدها القديم؟ يتحدد الجواب على هذا السؤال المركب من خلال ما تحمله النصوص السردية من شيفرات تتقاطع مع ما يبوح به الكتّاب عن تجاربهم الشخصية، في حواراتهم وأحاديثهم العادية.
هناك قاعدة أكيدة وهي أن لعبة السرد تقوم على حبكة مجموعة من الأكاذيب المتقنة، وهي لعبة يدركها الكاتب والقارئ معا، بدون أن يشعر هذا الأخير بأي طعنة في الظهر، أو خيبة أمل، كونه كما قال نيتشه يدرك أن تلك طريقة الأدب لقول الحقيقة.
تبدأ عملية تجريد الحقيقة من الشوائب الواقعية، تماما كما يُحضّر طبق الديك الرومي المزين لعيد الميلاد، يُجرَّدُ الديك من ريشه وينظف ويُغَطّى بأنواع من المطيبات، ويطبخ على مهل خلال ساعات، قبل أن يُقدّم في حلّته الشهية، وكأنّه لم يكن ديكا بشعا ذات يوم، يطلق على هذه العملية بالنسبة للأدب بتهذيب الحقيقة، وتقديمها بأثواب جميلة. وليس كل كاتب موهوب في تحضير طبخته الأدبية، يكمن السر طبعا في لغته، ومنظوره الخاص لرؤية الأمور. كيف يبدأ وكيف يرتّب الأحداث لتكون منسجمة مع بعضها، وكيف يختم حكايته لتحدث أثرا في متلقيها.
يغربل الكاتب حياته من شوائب طالما أزعجته على هذا النّسق أيضا، ويُسقط ما لا يراه مفيدا لمسيرته، ويضيف أحداثا طفيفة ليكون لتاريخه مذاق، ثم يستسلم لولادته الجديدة، ولادة مقنعة له ولغيره، وتناسب مقامه ككاتب. لكل كاتب رؤيته الخاصة نحو ماضيه وحاضره، فهو في النهاية قارئ لكتاب حياته، ومن حقه أن يعيد صياغته بالطريقة التي يراها تناسبه، ولعل هذا ما جعل فن البيوغرافيا يفشل في مجتمعاتنا، حتى لدى النخبة، إذ ثمة ماضٍ يعجُّ بمحطات مخزية لدى كل واحد منا، نحتاج لنَسْفِه لنعيش بسلام، ليس هروبا من صورته الموحشة داخل أنفسنا، بل هروبا من المحاكمات الجانية والمقاصل التي يعلقها لنا مَن حولنا. لعبة الأكاذيب تبدأ من هنا، حين نبني قبورا لمحطاتنا المخجلة تلك، ثم نعبر الشواهد بحذر لتجاوزها. يبدو الأمر مهينا لكاتب يرى نفسه في المرآة كل يوم، ويرى شخصا آخر غير الذي كانه، لكن هل هذه فعلا مشاعره، أم أنها مشاعرنا تجاهه؟
يدخل الكُتّاب حالة الكتابة بأهداف مختلفة، وهنا تنطلي لعبة الأكاذيب على بعضهم، ولا تنطلي على البعض الآخر، يكتب محمد الماغوط ـ الذي نتذكّره بحرارة هذه الأيام في ذكرى غيابه – في رسائله لأخيه عيسى عن أيام الجوع والخوف، يتبادلان تلك الرسائل بفخامة لغوية قلّما نجدها في الرسائل العائلية اليوم، يتحدثان عن والدهما الفلاح الفقير الذي كان يعمل أجيرا عند غيره، وعن الجوع والحرمان، وتفاصيل أخرى صادمة، يرد منها ما يرد من أمور نتحاشى معرفتها عن شاعر عظيم بحجمه، لكنّها الحقيقة، وذلك وجه لم نعرفه للشاعر، وكيف سنعرفه وقد أخفاه دوما ببطولات السجن، والقصائد الثقيلة، والكلام الكبير الذي أتقن اختراعه…
يبدو الأمر مهينا لكاتب يرى نفسه في المرآة كل يوم، ويرى شخصا آخر غير الذي كانه، لكن هل هذه فعلا مشاعره، أم أنها مشاعرنا تجاهه؟
وهذا ليس كل شيء، لقد كان الرّجل هشًّا، فائق الحساسية، ضعيفا، ولم يكن بطلا كما تخيلنا الأبطال دائما، كان إنسانا عاديا، تألّم لأجل الآخرين، وسخّر نفسه ليقول مواجعهم، وأعتقد أن أخاه عيسى ما كان ليعرف كيف يقول « الآخ « لذا عبّر عنها محمد بكثير من الشعر، كانا شخصا واحدا، بتاريخين مختلفين، بشخصيتين متباعدتين في سبل العيش، متقاربتين روحيا..
كل قصائد الماغوط وكل ما أنجز حول شعره من دراسات وأبحاث، لا شيء أمام الكتاب الذي نشر فيه أخوه رسائلهما، مع شهادته الخاصة فيه، كتاب جعل الماغوط الذي أحببناه نزداد حبا له، فكل ما قاله عيسى بشأنه، حسسنا بكمّ معاناته، ومغامرته الأدبية في مواجهة جهاز خطير، يتقن تعذيب وبث الرعب في نفوس المثقفين.
يحضرني الماغوط، وغسّان كنفاني من هذا الباب، ومن باب آخر يحضرني إبراهيم نصر الله، وسهيل إدريس، كما يحضرني طه حسين، ولعلّ القائمة طويلة لكتاب أعادوا صياغة حياتهم، أو أُعيدت من طرف مقرّبين لهم، لكن توفرها مرّ بدون وقفة حقيقية أمام ذلك النتاج، والتمحيص في محتواه، ولعلّنا نهبُّ عاطفيا تجاه كتاب من هذا النوع، ثم ننطفئ، بدون مبررات لكل تلك المشاعر التي نطلقها دفعة واحدة، ثم تنتهي.
كتابة السيرة قد تكون تدوينا صادقا لحياة عيشت، وقد تكون سردا لقصة لشخص آخر يشبه كاتبها، فإلى أي مدى تنطبق حياة الكاتب مع حياته مكتوبة؟
تنبثق الفروقات الكثيرة بين الحياتين بمجرّد الإمعان في اختيار نوع الكلمة المؤثرة عن غيرها، فعبارة أن الفقر طحن أحدهم، أقوى بكثير عمّا إذا قيل إنه عاش فقيرا، ثم تزداد تلك الفروقات اتساعا بين من عاش فقيرا ويعتبر فقره مدرسته الأولى لتعلّم الحياة، وبين من يخجل من فقره فلا يأتي على ذكره أبدا، ولنتذكّر محمد شكري الذي بالغ البعض في انتقاده، بعد أن وصف فقره المفجع وتبعاته المؤلمة، كون ما أقدم على وصفه صعب تصديقه من طرف القارئ العربي، خاصة أن زمن القارئ متقدم عن زمن النص وظروفه الاجتماعية بسنوات طويلة، وفوق ذلك، لا شكّ في أن شكري وصف مرارته بما يشفي غليله من مفردات، وتعابير ضاهت ألمه، بدون أن يفكّر في قارئ ينتمي لجيل أبنائه، يدعي الرّخاء على الرغم من أنّه لم يذق منه سوى القليل جدا.
عَبَر «الخبز الحافي» مخيلة القارئ العربي تاركا آثار اشمئزاز واضح، بلغ حدّ تهميش الكاتب إلى ما بعد موته، وفاته أن تلك المرحلة التاريخية البائسة من حياة شكري، كانت الحياة السائدة في بقاع عربية كثيرة، قد نستثني منها العوائل الثرية، وفئات قليلة لا تمثل الأكثرية. دفع الكاتب ثمنا آخر فوق معاناته السابقة ككاتب كتب ما عاشه بدون أن يلعب مقص رقابته الشخصية بشريط حياته، ولعلّه بدون أي توقع منه، جعل كوكبة كبيرة من الكتاب بعده، يلتمسون طريق «الكذب» لتوصيف تجاربهم الحياتية، معتمدين بناء قصص مشابهة لرواياتهم يكونون فيها أبطالا محبوبين، حتى أن طريقة كتابتهم لبعض سيرتهم، يقومون بها بتقنيات كتابة رواية أو قصّة قصيرة، بل إن بعضهم كتب «ملحمة شعرية» عن نفسه، فيما قرأت ذات يوم تقديما كتبه أحدهم لمجموعته الشعرية واصفا نفسه بالعظيم، وقد أعدت قراءة الفقرة والاسم عدة مرات غير مصدقة. يدخل هؤلاء في حالة لا يفرقون فيها بين ما يعيشونه وما يكتبونه، تتداخل خيوط الواقع مع خيوط المخيلة فيصعب فصلهما، ولا أدري هل هناك وصف علمي لهذه الحالة، خاصّة حين تكون مُتَعَمَّدة من الكاتب، أم أن الأمر بالنسبة لهم مجرّد تدوين لتشريع حياة طالما حلموا بها والسلام.
٭ شاعرة وإعلامية من البحرين
سيدة بروين… مقالاتك تذكرني بأغنية فيروز” ايه في أمل ” عندما أقرأها اتذكر انه مازال يوجد نوع من الجمال والأمل في هذا العالم الموحش يدفعنا لتكملة مسيرة الحياة.
بختصار معجب بكل ما تكتب بروين حبيب وليتها تكتب كل يوم وشكرا
بختصار معجب بكل ما تكتب بروين حبيب فى جريدة القدس العربي وليتها كل يوم وشكرا
في تصوري الشخصي الأمر يخضع لعدة عوامل /مؤثرات منها:
. البيئة التي يحيا فيها الكاتب (بينما أنتج الشرق أدبا قوميا أواخر القرن الثامن عشر /مطلع القرن العشرين، فإنّ بيئة المهجر فتحت أعين الأدباء المهاجرين من أمثال الرائع ميخائيل نعيمة ولطفي السيد، وانتجت أدبا مختلفا إنسانيا ينظر إلى الدنيا من زوايا مختلفة /منتقدا القديم والدولة العثمانية….
. الأمر يخضع أيضا لشخصية الأديب.. هل له شخصية قوية مؤثرة أم لا؟…
. أدب البوح يبقى نادرا في العالم العربي.. وإني أود أن أدعوكم إلى قراءة رواية “فتاة من النمسا” القادمة في الأسابيع القادمة والتي تحمل أدب سيرة وبوح وتنقد الماضي… أدعوكم إلى تأمل الأفكار المختلفة التي تحملها والتي صقلتها البيئة الجديدة.. وإني لا أشك مطلقا في أني لو لم أغادر الأوطان لما تأتى لي نشر أفكار “فتاة من النمسا” /كتابة رواية بمثل هذا القدر من البوح والجرأة..
وإني أؤكد اني تعرضت إلى ضغوطات من أفراد في الأسرة والمجتمع ما أخر نشر هذه الرواية لسنوات طويلة.. تشجعت في الأخير لأكتب هذه الرواية التي تحتاج إلى تشجيعكم ودعمكم لكي أتمكن من الدفاع عن هذه الأفكار وإثرائها.
رواية “فتاة من النمسا” القادمة مقتبسة من قصة حقيقية ،تقع أحداثها في كل من بريطانيا والنمسا وجزر كناري بمشاركة شخوص من جنسيات /ديانات مختلفة، وتسعى لمشاهدة الحياة من زوايا مختلفة وتؤكد أن الحقيقة مجرد أحكام يصدرها عقل الإنسان وهي بالتالي متغيرة وتدعو إلى تقبل الآخر.
. أود أن اشكر الأديبة البحرينية التي مرة أخرى تنشر مقالة قيمة عميقة معبرة