العرب ومثلث الهويات المتصدع
د. مضاوي الرشيدالعرب ومثلث الهويات المتصدعما يجري في العراق من اقتتال طائفي واضح وصريح رغم خلفية الشعارات الداعية الي الوفاق والوحدة يجعلنا نطرح موضوع الهويات في العالم العربي بشكل عام. منذ نشوء الدولة العربية الحديثة نجد ان ثلاث هويات تصارعت والتقت حسب الظروف السياسية والمرحلية. الهوية الاولي سميت بالوطنية والتي حصرت حدودها داخل الدولة القطرية الحديثة. الهوية الثانية كانت اوسع واشمل اذ انها تركزت علي مفهوم العروبة كقومية تستطيع الشعوب من خلالها تكريس انتماء عام لتاريخ وحضارة وثقافة ولغة مشتركة. الهوية الثالثة كانت أممية اكثر شمولية اذ انها اعتمدت علي الاسلام وحيزه الذي يستوعب شعوبا ودولا اكثر تعدادا من العرب الحضاري والثقافي واللغوي.شكلت هذه الهويات مثلثا له زوايا هشة او بالاحري ظهرت عليها الهشاشة. الهويات هذه حملت شعارات خلابة تبهر الجماهير لانها شعارات فضفاضة لم تصمد امام الممارسة الواقعية وخاصة ممارسة الدولة القطرية ذاتها والتي كانت الاطار المركزي الاقوي من حيث القوة الفعلية القمعية والقوة الاقتصادية من حيث امتلاك الثروات والدخل.تصدع المثلث تحت وطأة الممارسة الداخلية من قبل الدولة القطرية وممارسة الخارج المهيمن عن طريق اما الاستعمار المباشر او غير المباشر. طورت كل دولة عربية احدي زوايا المثلث اما علي حساب الزوايا الباقية او لتضرب هذه الزوايا ولم تعمل ابدا علي التوفيق بين الوطني (القطري) والقومي (العربي) او الأممي (الاسلامي).صنف معين في الدول القطرية شجع شعار العروبة علي حساب اما الوطني او الاممي وصنف آخر تغني بشعار الاسلام الأممي وكفر وخون العروبي وتجاهل الوطني كليا. ظروف كل قطر عربي أملت نوعا معينا من المواقف تجاه مثلث الهويات هذا. ونستطيع ان نجزم ان أي دولة قطرية لم تستطع ان تخلق التوازن بين هذه الهويات المبنية علي تصور ليس فقط للماضي بل للحاضر والمستقبل. صنعت هذه الهويات الثلاث في فترة تاريخية معينة وحرجة أملتها ظروف انهيار الامبراطورية العثمانية كليا بعد الحرب العالمية الاولي وتقسيم الجغرافيا العربية الي كيانات قطرية تحول العرب نتيجة هذا الانهيار من مجموعات عاشت ضمن حدود امبراطورية متعددة الجنسيات والاعراق والاثنيات واللغات والديانات الي كيانات جغرافية رسمت حدودها دول غربية كان همها تقسيم المصالح والمواقع. بعد مخاض عسير ضد الاستعمار بأشكاله المختلفة خرجت الدولة القطرية لتتغني بالهوية الوطنية كشعار اذ ان الممارسة السياسية اثبتت ليس وطنية الدولة القطر بل اقصائيتها وفئويتها. كانت ممارسة الدولة القطرية عقبة امام المشروع الوطني وليس رائدا في تثبيته. دولة ما بعد الاستعمار جندت الكثير من الموارد الاقتصادية لبلورة الشعار الوطني وترويجه فبنت هذه الدولة مراكز الابحاث والنشر لتنشر وتروج اساطير تاريخية عن الوطن كان معظمها يختزل التعددية الداخلية لمجتمع القطر بل حتي انها كانت تنفيه في برامجها التعليمية ومقولاتها السياسية. بالاضافة الي هذا الاختزال كانت دولة القطر دولة مركزية احتكارية للثروات الاقتصادية ومصادرة لحقوق الفرد عدا من كان يدور ضمن اطارها السياسي الايديولوجي او من كان من حماتها علي ارض الواقع. لم تستطع الدولة المتشدقة بالوطنية ان تعمم المشروع الوطني والذي يضمن سيادة القانون واحترام الفرد كعنصر مهم في المشروع الوطني وتلبية حاجاته الاقتصادية وحقه في التعليم والعمل والعيش والمساواة.كان لفشل المشروع الوطني تداعيات ها هي معظم الدول القطرية في المنطقة تعاني منها بدرجات متفاوتة. لم تستطع الدولة الوطنية ان تحل معضلة تعدد الهويات علي الجغرافيا المحلية. ورث العرب مشروع الدولة القطرية الوطنية دون المفاهيم والقيود التي رافقت مشروع الدولة في مناطق اخري من العالم. لذلك ظل مفهوم الوطنية والهوية المرافقة له كنتاج فكري لنخبة من المثقفين وليس ممارسة فعلية يشعر بها المواطن. حلمت هذه النخبة ونظرت لمفهوم الوطن والمواطنة علي أمل ان تذوب وتنصهر التعددية الاجتماعية بينما مارس رجال السلطة عملية استقطاب واسعة لجماعات اما اثنية او عرقية او مناطقية او طائفية. كانت الفجوة بين التنظير السياسي والممارسة السلطوية كبيرة جدا. جاءت المناهج التعليمية لتكرس صورة نمطية للوطن الجديد فلا تعترف هذه الصورة بالاختلاف بانواعه المتعددة لسكان الوطن بل هي تدين الاختلاف وتعتبره خطرا علي الوحدة الوطنية واثارة للفتنة الداخلية بينما هي تمارس اكبر عملية اقصاء متسلحة بموارد جديدة اقتصادية استطاعت ان تسيطر عليها بحكم كونها السلطة المركزية السياسية والعسكرية في المجتمع. خونت الدولة القطرية كل من يتغني بثقافة او هوية محلية ضمن اطار حدودها الجغرافية. وفي نفس الوقت سمحت دولة القطر فقط بالتغني بالفلكلور المحلي والرقصات الشعبية والزي المناطقي والصناعات والحرف التقليدية والتي تراكمت معالمها في المتاحف التي انتشرت في كل الدول العربية. اثبتت الممارسة ان الدولة ذاتها قد طمست بعض الجماعات المتغني بتراثها الفولكلوري في المتحف وهضمت الكثير من حقوقها الفردية والجماعية. تغنت الدولة القطرية الوطنية بالمساواة والعدالة وتقسيم الثروة علي اساس المواطنة ولكنها مارست ريبة وحذرا تجاه المختلف الذي يفند مزاعمها الشمولية. وبما ان هذه الدولة كانت منذ نعومة اظفارها دولة استبدادية فقد فشلت في توفير الفرص التي تمكن المجتمع المتعدد المصالح الاقتصادية والفكرية والسياسية من تنظيم نفسه فقمعت الدولة الحركات العالمية ومؤسسات مستقلة وتجمعات شعبية تقليدية وحديثة من منطلق تجنيد المجتمع للمشروع الوطني الكبير وتثبيت ولائه للوطن والذي كان عادة تثبيتا للولاء للشرائح الحاكمة.من تداعيات هذا الوضع المزري وفي ظل هذا القمع والاقصائية نمت هويات اخري ترعرعت علي حساب المشروع الوطني ـ القومي والأممي. الهويات الجديدة يصح تسميتها بهويات بدائية (ليس بمعني التخلف بل بمعني الاولية) وهي الهويات التي يكتسبها الانسان نتيجة الولادة في مجموعة ما كالهوية الاثنية او الطائفية او المناطقية.هذه الهويات ليست بالجديدة بل هي هويات قديمة تم تجديدها وبث الروح فيها لتصبح متجددة وحيوية. بعد ان سدت الدولة القطرية الكثير من الابواب علي المجتمع، تقوقع هذا المجتمع خلف هذه الهويات البدائية كالطائفية والعرقية والقبلية وغيرها. تعتمد هذه الهويات علي الانتماء للمجموعة الصغيرة. هذا الانتماء ليس بالطوعي او بالتعاقدي بل هو مفروض علي الفرد من قبل المجموعة علي اساس الانتماء الناتج عن ولادة الشخص ضمن اطارها. فالشيعي والسني والكردي والقبطي والحجازي والنجدي والبربري والآشوري وغيره يكتسب هذه الهويات تلقائيا وبدون جهد او عناء. تحت مظلة الدولة القطرية القمعية تفجرت هذه الهويات علي حساب الهوية المروج لها من المركز السياسي. بل ان بعض هذه الهويات كانت قاعدة الدولة ذاتها والذي بالضرورة يجعل الهويات الاخري مقصاة ومهمشة.عندما تغنت السلطة ومثقفوها بمشروع الوحدة الوطنية نجد ان هذا التنظيم الشعاراتي لم يلق استجابة حقيقية من قبل الشرائح الاجتماعية بل نجد ان هذه الشرائح تقوقعت خلال هوياتها الضيقة القبلية والطائفية والاثنية والمناطقية واعادت صياغة هذه الهويات التي لم تعد ثقافية فقط بل بثت فيها روحا سياسية من اجل المطالبة بحقوق جماعية اما للطائفة او للكتلة الاثنية او للقبيلة. اصبحت هذه الكتل تتحدث عن ذاتها من منطلق اما اقليات مهمشة او اكثرية مقصاة عن المشروع الوطني الكبير الذي لم يكتب له النجاح الكامل. ما يحصل في العراق اليوم من عنف طائفي ما هو الا حالة تكثف لعملية تراكمية لا يمكن ان نعزيها كليا الي الوجود الاجنبي الامريكي او الي مؤامرة صهيونية كما عودتنا الدولة القطرية علي سماعه خلال اكثر من نصف قرن. نعم التدخل الخارجي يعتمد في اساليبه المتنوعة للهيمنة والسيطرة علي خلق تكتلات تقسم المجتمع وتؤدي الي شرذمة القرار الوطني والوحدة الجماعية لكن مثل هذا التفسير لا يشرح الا نصف الحقيقة. اذا اعتبرنا التدخل الاجنبي السبب الوحيد خلف القتال الطائفي نحن بذلك نتهرب من مواجهة الواقع العربي وفشل الدولة القطرية الفئوية بالذات عن طريق ممارستها السياسية الاقصائية ومسؤوليتها في تبلور الهويات الطائفية القديمة وتسييسها علي حساب الهوية الوطنية. الدولة القطرية والمستعمر شريكان اليوم في مشروع اعادة احياء الهويات الضيقة. فكما ان الدولة القطرية قد تستقطب زعامات قبلية وطائفية وتخلق منها مركزا لتنفذ سياستها في منطقة او قبيلة او طائفة ما كذلك المستعمر ذاته. عندما وصل جنرالات بريطانيا الي البصرة راحوا وبسرعة خارقة يبحثون عن شيوخ القبائل و المرجعيات لانهم لا يستطيعون ان يحكموا الا من خلال هؤلاء وهم بذلك يكرسون مبدأ الالتفاف حول مثل هذه الزعامات غير المنتخبة. كذلك تصور الولايات المتحدة لعراق ما بعد صدام كان تصورا مبنيا ليس علي هوية وطنية عراقية بل علي اساس طوائف وكانتونات دينية او عرقية او اثنية.المستعمر لا يستطيع ان يخلق الهويات البدائية فالولايات المتحدة لم تخلق السني والشيعي والكردي وغيره اذ ان هذه الهويات الضيقة موجودة قبل ان توجد الولايات المتحدة ذاتها ولكن استطاعت الولايات المتحدة ان تعجل وتكرس تسييس هذه الهويات لتطغي علي غيرها من الهويات الاخري كالهوية الوطنية او الاممية او القومية للشعب الذي يقطن المساحة الجغرافية المعروفة بالعراق. وكذلك فعلت الدولة القطرية عندما امسكت بزمام الامور. هي ايضا بتصرفاتها السياسية غذت الانتماء البدائي علي حساب الوطني او القومي. وعندما انهارت الدولة القطرية عام 2003 ظهر بوضوح مدي تأصل الهويات الطائفية في العراق. يتغني العراق الجديد بالمشروع الوطني الفدرالي ولكنه يتحرك ويمارس السياسة من الموقع الطائفي والاثني. لاحظوا كيف اختفي تماما منظرو المشروع الوطني الكبير وافسح المجال للشخصيات التي تستمد شرعيتها من مبدأ الدفاع عن الطائفة اي الهوية البدائية التي يولد في اطارها الانسان. الكردي يتحدث من منطق كرديته والسني يطالب بحقوق من مبدأ كونه سنيا ـ اقلية في العراق الجديد عدديا وسياسيا ـ والشيعي يتحدث من موقع كونه اكثرية شيعية. اختزل العراقي اليوم ذاته وهوياته المتعددة السابقة بكونه عضوا في احد هذه الكانتونات. هذا التقوقع لم يكن ليحصل لولا الارضية المهيئة لمثل هذا التصرف وهذه الممارسة السياسية التي هي نتيجة حتمية لفشل المشروع الوطني خلال فترة تزيد عن نصف قرن.العراق مثل واحد في العالم العربي اذ ان هذه المنطقة تمر بمرحلة حرجة نتيجة فشل المشروع الكبير. تفتق الهويات البدائية علي حساب الوطني والقومي والاممي ينذر لدخول المنطقة حالة فوضي وتشرذم مصاحبة بعنف أعمي قاتل. لم تترسخ الهوية الوطنية في كثير من الاقطار العربية. نلاحظ ان الكل يحاول نبش هوية ضيقة والتي اصبحت هذه الهوية صمام الامان (او علي الاقل هذا ما يفتقده مروجو مثل هذه الهويات) الذي تواجه فيه المجموعات بطش الدولة القطرية واقصائيتها المتراكمة عبر عقود طويلة.نلاحظ ان هناك مجموعات لا تتحدث من منطلق كونها مصرية او سعودية او يمنية او سودانية بل هي تطرح نفسها كمجموعات قبطية حجازية ـ نجدية ـ زيدية ـ اسماعيلية ـ شيعية ـ مارونية الي ما هنالك من جزئيات تكتسب اليوم معني سياسيا لا ثقافيا او مذهبيا او حضاريا. تطرح هذه الكيانات نفسها علي انها كيانات سياسية تستطيع ان تضمن حقوقا جماعية لافرادها والمنتمين اليها.ساعدت العولمة بتكنولوجيتها المعلوماتية السريعة علي بلورة هذه الهويات. علي عكس ما توقعه منظرو العولمة ومروجوها لم تصهر العولمة الثقافات والهويات وتقرب الحدود بل هي اليوم تقاوم عن طريق التقوقع في نطاق الهويات الضيقة. استطاعت تكنولوجيا العولمة من فضائيات والشبكة المعلوماتية ان تكرس ما يسمــــي Virtual Communities ـ اي مجموعات الكترونية تشترك فضائيا في مفاهيم معينة. في العالم العربي نري اليوم ان لكل طائفة وقبيلة ومنطقة وعرق اثني موقعا الكترونيا وحتي فضائية عالمية. الكل يتغني بخصوصيته ويمارس انواعا مختلفة من القدح والذم والتشنيع علي الآخر تحت برقع الاسماء المستعارة والهويات الخيالية. استغل الطائفي والعرقي والعنصري والقبلي التكنولوجيا ليطور وعي مجموعته وتضامنهم بأسلوب مبتذل ورخيص يعتمد علي شيطنة الآخر الذي لا ينتمي الي فكره وعقيدته ومذهبه وطائفته وعرقه وقبيلته.بعد سقوط الدولة القطرية ومعها شعار الوطنية تقوقعت المجتمعات العربية خلف اسوار ضيقة في مرحلة حرجة تزامنت مع هجمة خارجية جديدة لها شعاراتها الخاصة بها. اليوم نحن لا نواجه كعرب اقصائية الدولة القطرية ولا شمولية الهوية العربية او اممية الهوية الاسلامية بل نواجه بشكل عنيف وشرس تفتق الهوية الضيقة بوجوهها المتعددة كالطائفية والعرقية والقبلية. وطالما اننا نفسر هذه الظاهرة وكأنها عمل من اعمال الشيطان المستعمر او الصهيوني لن نصل الي نتيجة تساعدنا علي تجاوز المرحلة والحد من الاقتتال. قبل ان نحمل الخارج المسؤولية يجب علينا ان ننبش ذواتنا ونبحث عن السبب الذي يحركنا ويثير نعراتنا المتعددة الوجوه. لن نتجاوز طائفتنا واثنيتنا وقبيلتنا ومنطقتنا طالما ان الدولة الاقصائية المستبدة تختزلنا في معادلة بسيطة تسمح لها بالسيطرة علي تاريخنا وحاضرنا ومستقبلنا يجب ان نعيد صياغة الدولة القطرية لنتغلب علي نعراتنا وما اكثرها. عندها فقط نستطيع ان نحول الوطنية من شعار الي ممارسة ومن ثم نحلم بالهوية القومية العربية او الاممية الاسلامية.9