من أهم الأصوات الشعرية التي ظهرت في فلسطين يأتي صوت المرحوم سميح القاسم الذي وافته المنية من أيام.
لسميح القاسم دور متميز في الانتقال بحساسية الشعر العربي من المحلية إلى العالمية و من طور الاعتماد على الذات و المكونات أو الينابيع لطور تكوين الينابيع.
لقد اتسمت فترة سميح القاسم بالغليان و مساءلة الذات و البحث عن معنى ما نسميه «مشروعا شعريا«.
و فرض ذلك مواجهة عدة تحديات جسيمة. أولها يمثلهالجيل السابق أو جيل النكبة، و من رموزه إبراهيم طوقان الذي له وظيفة واحدة و هي استنهاض الهمم و التحفيز و ذلك بأسلوب إيقاعي لا تنقصه أخلاق الفرسان و المغامرين.
كان اتجاه التصعيد عند طوقان و أبناء جيله انتحاريا. و تحركه رضة الفطام أو الخوف من الابتعاد عن « أمه الأرض»، مهد الطفولة و الحضن الدافئ. و أضيف أيضا الابتعاد عن صورة الأم الطيبة التي يشكل تفكيكها في الخيال أو ذهن المكونات نوعا من النوستالجيا و الألم و المكابدة.
وأنا لا أرى فارقا ملحوظا بين هذه الروح الانتحارية نتيجة ضياع الأرض ( كناية عن الوطن) و بين الكبت المرضي الذي يتفاقم عند شعراء لديهم عقدة تثبيت من أمثال جون أشبري. فكل قصائده نحيب و بكاء صامت على الخميلة التي التهمتها أوبئة مجتمع صناعي ربوي.
و كانت مهمة سميح القاسم تتلخص بتجاوز هذه المحنة و بإعادة اكتشاف الطبيعة الإشكالية لوجود يتبدل شئنا أم أبينا.
لقد حاول سميح القاسم أن يتعامل مع تبديل الموضوع بتبسيطه، و بتبديل موقع الذات من هذا الموضوع.
و قد فرض عليه ذلك إعادة تعريف معنى السقوط في الفجوة و تفكيك عناصر الموجودات ثم صياغتها: كل على حدة. بحيث كل عنصر يكون موضوعا لذاته.
و لمزيد من التوضيح: لقد حاول أن يضفي شيئا من الوعي على استقلالية الأجزاء. و عليه نظر للعالم كوحدات مغلقة و مترادفة. و قاده ذلك لدمج عدة أساليب شعرية في إطار قصيدة لها مضمون عضوي، كما فعل في (كولاج ) و في (جهات الروح).
و عن ذلك يقول الشاعر اليمني عبدالله العذري في مقدمته لكولاج: إن بعض النماذج الجديدة تستعمل جمع عدة مواد مختلفة الصفات و الأغراض في العمل الواحد. و يضيف: إن أحد الشعراء العرب الذين عاشوا في القرن الثالث الهجري لجأ لهذه الطريقة في الشعر و النثر. و قد صنفه النقاد القدماء في باب « الحماقات«. ص١٠.
و من نافلة القول إن هذا الأسلوب ( استثناء المركز من الطغيان على الأطراف من خلال التنويع في البنية ) انتشر منذ وضعت الحرب الثانية أوزارها، و لا سيما في الفن التشكيلي و العمارة الحديثة. لقد تحولت وحدة الكل لترادف الأجزاء. بمعنى أن اللوحة الواحدة بدأت تستعمل عدة مصادر ( ميديا مختلفة). ففي لوحات الفنانة الهولندية غيتا باردويل مثلا أو لوحات الصربية ناتاشا سكوريك تتآزر طوابع البريد و الجص و الخشب و ورق الصحف و المعادن في صناعة الصورة النهائية للوحة.
لقد جدد المرحوم سميح القاسم بنية القصيدة العربية. فقد فكك مفهومنا الكلاسيكي للحداثة و أعاد صياغته ضمن رؤية متعددة المراكز، ليس فيها غالب و لا مغلوب. و لا ترفض القديم بأساليب حداثة مكفهرة و مشاكسة. بالعكس لقد أعاد للقصيدة العمودية تألقها من خلال عمليات التحويل و الإنضاج و التطوير.
لا شك أن محمود درويش لعب دورا هاما و رياديا في تفتيح براعم الشعر العربي. و لا سيما بعد حصار بيروت. فقد تحول من كتابة القصائد لكتابة القول الشعري. و اعتمد لتحقيق ذلك على تبديل العلاقة بين الصفة و الموصوف و الإسم و المسمى. و أجاز للألوان أن تتجاور ضمن علاقات تشكيلية يحركها منطق نفسي.
و قل نفس الشيء عن توفيق زياد الذي وافته المنية في أعقاب معاهدة أوسلو مباشرة. فقد تخصص بالاضطرابات الصوتية و الألسنية. و تحول الشعر معه لنوع من الأفازيا، لقد كانت توجد في إيقاعاته فراغات و هي متكررة بحيث أن غياب الصوت و إيقاعه يكون له معنى، مثل الصفر في الرياضيات. إنه مع بقية الأعداد له قيمة و معنى و لكن بمفرده لا يدل على شيء.
غير أن ميزة سميح القاسم ( الشهير بلقب أبو وطن) هي في تأصيل الحديث و القديم. و في صياغة قصيدة ذات تاريخ نفسي و دلالي . وفي إنتاج قصيدة جوهرية مصدرها التصورات و المشاعر و ليس التراكيب و الصور والمرئيات.
و كما أرى إن أعماله و لا سيما التي ظهرت في الثمانينات و ما بعد لها دور ريادي لا يقل بالأهمية عن منجز السياب في قصائده الحركية التي نقول إنها قصائد تموزية.
…..
كاتب سوري
صالح الرزوق