«الرمز والوعي الجمعي» للأكاديمي المصري أشرف منصور: المهمشون وتاريخهم الذي صار مُقدّساً

محمد عبد الرحيم
حجم الخط
0

القاهرة ــ «القدس العربي»: في أي مناخ سياسي واجتماعي تنتظم عقيدة من العقائد؟ كيف يمكن اختبار (وحي) ما، يهبط من السماء على أرض الواقع؟ بمعنى تحوله إلى ظاهرة اجتماعية بشرية، تتفاعل بدورها مع ما يحيطها، وتحاول أن تجد لها حلولاً من خلال هذا (الوحي)، وبالتالي اختلاق شكل من أشكال التقديس لجماعات هامشية في الأساس، تستمد قوتها ووجودها من حالة القداسة التي ابتدعتها. هذه الأسئلة وغيرها يثيرها كتاب «الرمز والوعي الجمعي.. دراسات في سوسيولوجيا الأديان» للباحث والأكاديمي المصري أشرف منصور، الصادر في طبعة ثانية عن الهيئة العامة لقصور الثقافة في القاهرة. موضحاً بداية أن سوسيولوجيا الأديان تهدف إلى البحث في التأثير الذي يُحدثه الدين في المجتمع والعكس، والظروف التي تجعل ديناً ينتشر في مجتمع ما، وآخر يندثر، إضافة إلى تكوين مثل هذه الجماعات الدينية، تطوراً وسلوكاً. وبينما تختص السوسيولوجيا بدراسة الأديان الإبراهيمية، تقترب الأنثروبولوجيا أكثر من الأديان السابقة على أديان الوحي.

اليهودية بين سبينوزا وهيغل

في انتقاده لأسفار العهد القديم في مؤلفه «رسالة في اللاهوت والسياسة» يبدأ سبينوزا في انتقاد عناصر الديانة اليهودية الأساسية، النبوة والشريعة والكهنوت. يصل سبينوزا إلى كيفية تحول اليهودية إلى دين وضعي، يؤمن بأن اليهود شعب مختار، وبقداسة النصوص ويخضع لمؤسسة دينية كهنوتية. ويتكامل مفهوم هيغل مع هذه الرؤية، قاطعاً شوطاً آخر، موضحاً أن المسيحية بدورها تحولت وأصبحت شكلاً آخر من اليهودية، أي إلى دين وضعي تتحكم به مؤسسة كهنوتية.

وعي اليهودية البائس

أطلق هيغل على الوعي اليهودي (الوعي البائس)، وهو الوعي الممتد ليشمل كل وعي ديني مغترب، وهو حضور ازدواجية السيد والعبد في وعي واحد، فهو العبد والسيد الإله، ولا ينجح هذا الوعي في الشعور بذاته إلا من خلال اعتماده على الوعي الآخر الإلهي، فلا ينجح في الشعور بذاته ولا ينجح في التماهي مع الإله، وكلما حاول العثور على ماهيته وجدها في ضده لا في نفسه، ما يزيد من شقائه وهزيمته، ولا طريق للخروج من هذه الأزمة ــ حسب هيغل ــ إلا بتجسد الإله في صورة إنسان، فكانت المسيحية، إلا أن هذا أيضاً لم يحل لمشكلة، فمسألة التقريب هذه تمت من خلال إرادة إلهية، لا إنسانية، فظل هذا الوعي يعاني بؤساً لا ينتهي.

يرى هيغل أن الروح اليهودية المتعصبة والوعي الشقي هما سبب علو أهمية شخص المسيح على المبادئ التي كان يدعو إليها، ومن هنا اكتسبت حياته أهمية أكبر من أهمية تعاليمه الأخلاقية.

حالة (إبراهيم) ودلالاتها

من ناحية أخرى يستشهد هيغل في «روح المسيحية ومصيرها» بتحليل شخصية (إبراهيم) ــ كشخصية توراتية بغض النظر عن وجودها التاريخي ــ ومدى تأثيرها على كل بني إسرائيل، هذا المُتغرّب الدائم، الذي لم يستقر في مكان، بدون أن يستطيع الانتماء إلى أي قبيلة أو مجتمع مرّ به، فكانت تعاملاته مع (الآخرين) إما الحذر أو المكر، وفي النهاية المعاداة. ومع هذه الحالة لم يجد ما يُؤنس وحدته إلا الإله الذي يتصور أنه إلهه فقط، وإن باقي الشعوب كفار. كذلك ظن إبراهيم أنه بتقواه وعبادته لهذا الإله الجبار، سوف يرث وذريته جميع المناطق التي تجوّل فيها، ومن هنا تظهر فكرة (أرض الميعاد)، وبما أن إبراهيم عرف هذا الإله بنفسه، فتصور أنه إلهه فقط هو وشعبه، هذا الذي سيصبح (شعب الله المختار). ويمتد الأمر إلى (موسى) فقد تخلى اليهود عن تنظيم شؤونهم بأنفسهم، فحتى تحررهم من الفرعون ــ حسب الزعم التوراتي ــ كان أمراً إلهياً. فالقانون المدني والدين أصبحا شيئاً واحداً. وبخلاف شخص المسيح ودعوته التي تم تطويعها، حسب وجهة النظر هذه، ماذا عن الإسلام، وقد حقق حلماً يهودياً، ولكن في جزيرة العرب، فقد كان اليهود يبحثون عن نبي عسكري وسياسي قوي يحقق لهم وحدتهم وتفوقهم على الأغيار، وهو ما تحقق زمن محمد في الجزيرة العربية، بدون اختلاف لنظرة المسلم عن اليهودي في الحكام والتشريعات، مع بعض التغيرات التي فرضتها الأجواء العربية وطبيعة تكويناتها. وعلينا ان نلاحظ مدى التشابه الكبير بين تشريعات اليهود ونبي الإسلام.

حول إلوهية المسيح

يرى هيغل أن الروح اليهودية المتعصبة والوعي الشقي هما سبب علو أهمية شخص المسيح على المبادئ التي كان يدعو إليها، ومن هنا اكتسبت حياته أهمية أكبر من أهمية تعاليمه الأخلاقية. فلم يستطع اليهود العلو على الشخص، وتبني المبدأ الذي يدعو إليه، بل ظل المبدأ متصلاً بالشخص. وبذلك تم إرجاع الحرية والطهر والنقاء في شخص المسيح، وما يدعو إليه من فضيلة وكرامة إلى إلوهيته، لا إلى كونه إنساناً حراً، فالوعي اليهودي لا يرى سوى أن يكون المرء عبداً لأله، أو أن يكون هو نفسه إلهاً.

الرسالة المحمدية

وفي هذه المسألة يرى توينبي أن الفترة التي بدأ فيها محمد دعوته تختلف تماماً عن فترة ظهور المسيح اليهودي، الذي كان عليه مواجهة الدولة الرومانية، وأن يقيم بدلاً منها إمبراطورية يهودية، فلم تكن مكة كلية النفوذ، ولم يشمل نطاق سلطتها سوى الطائف، وبالهجرة واستتباب الأمر لمحمد وأتباعه، امتلك العرب أسباب غزو العالم، وحتى بعد موت محمد، وما عُرف بحروب الردة، فقد عاد العرب للدخول في حكم دولة الإسلام، لاكتشافهم أنهم تحت هذه القيادة الموحدة يمكنهم غزو بلاد الفرس والروم، والاستيلاء على ثرواتهما. ولا ينسى توينبي لفت الانتباه إلى عودة فكرة الشعب المختار في صورة أخرى وجد العرب فيها ضالتهم، وقد وصفوا بأنهم خير أمة أخرجت للناس.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية