حدث ذات مرة ان شكّل سلك العسكر مصعداً اجتماعياً حين تعطّلت المصاعد الاجتماعية الأخرى.
لم يكن ذلك متاحاً حين كانت المنظومات السلطانية القائمة تستقدم عسكرها من خارج المجتمعات المسلمة، سواء بابتياعهم من أسواق النخاسة في حال المماليك، أو باقتطاعهم كجزية على نسبة من الأطفال في القرى والدساكر البلقانية، في حال نظام الدوشرمة العثماني، ولا حين كانت العسكرية قبل ذلك أو بعده حكراً على اقوام ينهضون بها، بمعزل عن أبناء البلد.
أصبح ذلك متاحاً حين صار بالمتسع دخول أبناء الفلاحين الى الجيش، الى سلك الجندية اولا، لكن شيئا فشيئا الى سلك الضباط.
هؤلاء نجحوا في تحويل الجيش الى مصعد اجتماعي. لم يلتزموا مطولا بالهرمية العسكرية. لم ينقلبوا على حكم غير العسكر، الذي هو هو، في حال الملكية المصرية من سلالة محمد علي، حكم احفاد العسكر، الا بحكم انقلابهم على الهرمية العسكرية نفسها.
في الوقت نفسه بحثوا عن مشروعية لانقلابهم المزدوج هذا، على سلطة غير العسكر، اسراً حاكمة او أحزاب افندية، وعلى الهرمية داخل سلك العسكر، بوعود قطعوها بشكل او بآخر، بأنهم قادرون على استحداث مصاعد اجتماعية في بلادهم لفئة واسعة من الناس، وعلى تفادي الفوضى الاجتماعية والقيمية في ذات الوقت. «المصعدية الاجتماعية» شكّلت، لنقل، الوجه اليساري، من العسكريتاريا العربية، بالقدر نفسه الذي شكّلت «الاستقراروية»، وجهها اليميني. لا تعني «المصعدية» هنا تحسين احوال العدد الاكبر من الناس، بقدر ما تعني ايجاد قاعدة اجتماعية من تحت يستند اليها النظام، ولا تعني «الاستقراروية» هنا رغبة في الخروج من حال الطوارئ المزمنة، بقدر ما تعني تشكيل تفاهمات بين النظم ذات الطابع الجمهوري العسكري وبين فئات طبقة من كبار التجار هنا، وطبقة من كبار المقاولين هناك، بل تحوّل هذه التفاهمات في وقت لاحق الى تداخلات، حين يكبر ابناء العسكر خارج سلك الآباء. في العصر المملوكي ايضا، كان اولاد المماليك غير مسموح لهم بأن يبقوا في العسكر او ان يحتسبوا عبيدا عسكريين كآبائهم، كانوا يدعون باولاد الناس، ويهتمون اما بالتجارة، واما بالعلوم الدينية، او الاثنين معا، لكنهم يبتعدون عن حلبة الصراع السياسي في معظم الاحوال. اما في عصرنا هذا، فحدث العكس: ابناء العسكر ليسوا عسكرا، لكن حاول كل رؤساء الانظمة الجمهورية العربية تقريبا التوريث لابنائهم سواء المنخرطين في السلك، او غير المنخرطين. لم ينجح منهم الا توريث بشار الاسد، الذي لم ينخرط في السلك الا متأخرا، في السنوات السابقة على وفاة والده. الآخرون، شكّل تسويقهم سببا اما لنقمة شعبية، واما لنقمة العسكر انفسهم، او لاجتماع النقمتين، وهو ما حصل بخاصة في مصر، حيث ارتكب حسني مبارك «محظور» عدم الاهتمام باسباغ اي صبغة عسكرية على نجليه، جمال وعلاء.
تحرر السلك العسكري من سطوة المخابرات، الذين هم أشبه بـ«مدنيين» برتب عسكرية، هو المدخل الأساسي لأي اصلاح حقيقي للعلاقة بين العسكر والمدنيين ايضا
يحتاج موضوع صعود العسكر في مرحلة انكفاء المستعمر، بالبلدان العربية، الى عناية كثيرة. لان الاسباب الوجيهة للشكوى والنقمة والسأم من العسكريتاريا كثيرا ما تضعف رصد مختلف أنماط ومفارقات وأوجه الظاهرة، فينقبض محدثك مثلا ان سمعك تتحدث عن سلك العسكر كمصعد اجتماعي، او كآلة استقرار، كما لو كانت العسكريتاريا مجرد نزعة طفيلية أصيبت بها النظم السياسية في المنطقة لأسباب كان يمكن تفاديها بـ«الوعي» والحيطة.
بالمقدور ان يثار هنا موضوع السودان. هذا البلد عاش مراحل طويلة من سلطان العسكر. فترات الحكم المدني فيه كانت تأتي مأزومة، مضعضعة، بما يفتح الطريق مجددا لعودة العسكر، وهذا حدث بخاصة بعد الاطاحة بجعفر النميري عام 1985، فتسليم المشير سوار الذهب السلطة للحكم المدني الذي لم يتمكن من تجاوز ازمته، عاد وفتح الطريق لعودة العسكر الانقلاب، بثوب الشريعة هذه المرة (وهو ما كان قد باشر التصميم له النميري).
في السودان ايضا، لم يتمكن العسكر فيه من الاطباق تماما على المجتمع في اي مرحلة، وظل البلد بمنأى عن صيغة مشابهة لما يعبر عنه عنوان كتاب انور عبد الملك الشهير «مصر مجتمعاً عسكرياً». حافظت الحيويات النضالية على نفسها فيه، وبخاصة من خلال تجربة «الحزب الشيوعي السوداني» أنجح الاحزاب الشيوعية العربية لجهة التجذر في بيئته. في الوقت نفسه، هو الحزب الشيوعي العربي الوحيد الذي قام جناحه العسكري عام 1971 بعمل انقلابي سيطر فيه على الخرطوم لايام قليلة، وفرض فيه هذا الخيار فرضا على قيادات الحزب. كانت النتيجة، مع عدم مسارعة الانقلابيين الحمر لحسم الوضع تماما لصالحهم، ومساعدة الانظمة المجاورة للنميري، اعدامات ومجازر. بحد ذاته، لم يكن هذا الانقلاب تهورا: الضباط الشيوعيون كانوا يدركون اكثر من سواهم، ان النميري ذاهب الى الانقضاض الدموي على الشيوعيين، على الطريقة السوهارتية من قبل، والصدّامية من بعد. كانت المشكلة تقنية الى حد كبير: التباطؤ في عزل وشل حركة خصومهم. من وراء هذه المشكلة التقنية كان هناك مشكلة ايديولوجية اساسية: من غير الواضح لاي شيوعي عربي ما الذي يمكن ان يفعله اذا سيطر على السلطة. مذهبه الايديولوجي يقول له انه عليك دائما ان تفتش في بلدك عن برجوازي وطني، وان امكن، تقدمي، وتقف وراءه، تدافع عنه حينا، وتدفعه الى الامام حينا اخر، تحبه اكثر مما تحبه امه لهذا البرجوازي الوطني التقدمي، لأنك اقدر على فهم ضرورته التاريخية من اي احد اخر. لكن الساعة ساعته، وساعتك الاساسية لم تحن بعد، ما دامت الثورة الوطنية الديموقراطية في امر اليوم، وليس الثورة الاشتراكية. المفارقة هنا، صنعها العسكر، عبد الناصر والبعث عندما رفعوا الشعارات الاشتراكية، وطبقوها على طريقتهم في الاصلاح الزراعي والتأميمات، ولم يكتفوا بحدود الثورة الوطنية الديمقراطية ونظرية المراحل التي التزم بها الشيوعيون.
لكن العسكر ما عادوا يرفعون مثل هذه الشعارات منذ وقت طويل، وشيئا فشيئا اخذوا يتخففون من «المصعدية الاجتماعية» لصالح «الاستقرار اولا»، ومن دون ظهور قوى صلبة في كل هذا المناخ من الانتفاضات العربية لديها تصور لمصاعد اجتماعية بديلة. نكوص العسكر عن دورهم هذا كان حتميا بما ان المصعدية الاجتماعية الحيوية تقتضي وجود ضباط قادرين على الاطاحة بالهرمية العسكرية عند كل منعطف ايضا. والحال ان ما حدث لم يكن اعادة الاعتبار للتقاليد الانضباطية التراتبية «البروسية»، بقدر ما كان زيادة تحكم المخابرات بالعسكر مأخوذين ككل. تحرر السلك العسكري من سطوة المخابرات، الذين هم أشبه بـ«مدنيين» برتب عسكرية، هو المدخل الأساسي لأي اصلاح حقيقي للعلاقة بين العسكر والمدنيين ايضا.
كاتب لبناني