عطر التوابل

في كثير من الأحيان وحين تتعبني الدروس والالتزامات الجامعية، وحين أكون في لفيف مقرف من المتعالمين أفكّر في أنّ أغيّر المهنة. عليّ أن أكسب لقمتي بعرق ذهني أو بكدّ يميني، لقمة عيش أردتها من بدء الحياة بسيطة. وأسأل نفسي: ماذا تراني سأشتغل إن أنا تركت المحفظة والطبشور.. وسريعا ما أجيب نفسي لا تردّد بأني سأشتغل طبّاخا في آخر الأرض.
أنا لا أعرف أين يقع آخر الأرض ولا كيف يمكن أن أكون هناك طبّاخا ناجحا.. سمعت مرّة وأنا طفل جارنا العجوز يبكي ولده الذي لم يعد وعزّب في الغربة، وكان يخشى الموت فلا يراه فيقول بأنّه في آخر الدنيا.. قال من كفكف دمعه إنّه يقصد جزر الواق واق.. هذه الجزر التي يجري ذكرها على لسان الرحالة العرب لا يمكن أن تكون آخر الدنيا، بل يمكن ألا تكون في الدنيا أصلا.. عجيب أمر اللغة كيف أنّ الدنيا التي هي أقصى الدنوّ تصبح ذات أبعاد قريبة وبعيدة. تكون في أوّل الدنيا لا لأنك في أوّل الدنيا بل لأنّ الأرض تبدأ من عندك وتنتهي حيث تريد أن تنتهي: حيث تتقطع السّبل بالمهاجرين.
سأترك أوّل الدنيا وشغلي وأرحل إلى آخر الدنيا.. تذكّرت بيت شعر يستشهد به بعض النّحاة يقول «سأترك منزلي لبني تميم* وألحق بالحجاز فأستريحا» لن يعود من المفيد لي أن أكرّر قول النّحاة إنّ (أستريحَ) في هذا الشاهد منصوبة بأن المضمرة بعد الفاء صرت أقرأ المعنى الذي لم يقصده الشاهد وقصده الشاعر. ينفعني من الشاهد أنّه يحثني على أن أرحل وينفعني منه أنّ لكلِّ عَصْرٍ بني تميم يقضّون مضجعك ويدفعونك إلى أن تترك كلّ شيء وراءك وترحل إلى آخر الدنيا.
تركت مهنتي لبني تميم ولحقت بآخر الدنيا أحمل معي في زادي توابل بلادي. قرأت في سالف الدّهر وما أكثر ما قرأت وما نفعني ما قرأت ، قلت لعلّه ينفعني في آخر الدنيا.. قرأت كلاما لعالم العلامات رولان بارت، أنّ التوابل عَلاماتٌ أي هي دوال لها مدلولات وليست وظيفتها مقتصرة على تعطير الأكل. أوّل أفكار بارت أنّ ما نسميه موادّ غذائية وموادّ الطبخ ليست «موادّ» بل هي علامات في مجمع من السلوكات التي قد تقرب من التعويذات.. لنأخذ الملح عندنا فإنّه لا يستعمل في الطبخ وحسب، بل يستعمل أيضا في إذهاب الأرواح الشريرة يوضع في كفّ عجوز مباركة وتدير القبضة على الرأس وبعد مدّة تتثاءب العجوز مرات وتقول محدّثة موهوما: أخرجي يا نفس بالتي هي أحسن اُخرجي في هدوء لا ضرر ولا ضرار.. النفس ههنا هي الشريرة طبعا.. الملح ليس كالسكر هو عندنا أكثر قداسة.. حملت الملح وتركت السكّر فليس هو من عاداتنا ولا يحمل حكاية من حكايانا.. سكرنا الأصلي هو العسل.. حملت العسل مع التوابل..

أوّل أفكار بارت أنّ ما نسميه موادّ غذائية وموادّ الطبخ ليست «موادّ» بل هي علامات في مجمع من السلوكات التي قد تقرب من التعويذات.

لا أدري إن كانت توابلنا هي توابلنا، وإن كنت أشكّ في ذلك فهي مستقدمة من بعيد.. أنا لا أدري كيف كان طعم الأكل من غير التوابل ولا كيف أنّ التوابل ساحرة حتى سافرت إلى آخر الدنيا.. توقفت في مكان لا يصلني فيه المعارف وأنا أقول قول التوحيدي: جزى الله عنّا من لم نعرفه..
رحل القدامي بحثا عن التوابل، وكانوا وهم يبحثون عن التوابل يكتشفون أشياء جديدة أهو سحر التوابل؟ أم أنّ التوابل كانت تعلّة أو تقيّة لإجراء تلك الرحلات المكوكية البحرية. رحل ماجلان في محيط منحنى مغلق حول الكرة الأرضية ليصل إلى آخر الدنيا.. كان أوّل الدنيا البرتغال وآخر الدنيا جزرا تسمّت باسمين جزر التوابل وجزر الملوك في أقصى الشرق في إندونيسيا.. خامرتني فكرة أن أرحل إليها لكنني عدلت، لأنني لا أبحث عن التوابل، بل أبحث عن مستهلكيها في الطعام: أنا أبحث عن الآكلين. أنا سأحمل التوابل بعيدا بحثا عن آكلين أسخياء، الأكل فنّ هكذا كنت أعتقد من قديم الزمان. حملت توابل محلّية غير مغشوشة كان الفلفل بلونيه الأحمر والأسود أهمّ التوابل وحملت الكركم الأصفر: ثلاثة ألوان تقول للآكل أشياء، الأحمر يثير والأصفر يهدّئ والأسود يخفي كما يخفي ليل شيئا لذيذا.
حملت معي شيئا نسمّيه التابل ولم أفصله عن حبييته الكَرْويّة هكذا نسميهما معا، عجيب أمر التابل هو نوع ويحمل كامل اسم الجنس هل كان أجدادنا لا يعرفون غيره؟ ربما نعم وربما لا.. كثيرة هي أسماء الأجناس التي تعمّ نوعها عندنا وإن لم تكن طرازها أنا لا أعرف إن كان التابل هو طراز التوابل الأخرى، ربما كان وربما لا. عجيب أمر الكروية هذه تجانس كروية الأرض ولا تقول ذلك. عود القرنقل الذي حملته معي كان يقلقني، أنا لا أعرف متى صار هذا العود جزءا من التوابل، لكنني قرأت مرّة أنّ البرتغاليّين هم من جلب القرنفل إلى جزر التوابل ربّما ليصيّروه منها.. دجّنوه المسكين هناك وبدلا من أن يهدى للعشاق جفّفوه وجعلوه من التوابل التي ربما حملها التجار من جديد إلى البرتغال.. عجبي منك يا قرنفل يزرعونك عودا على أنك عطر وتعود جافا لتباع في سوق التوابل: يذهب عطرك الحيّ ولونك المشرب حمرة وحياة، لتعود مجففا في علب التوابل..

التوابل علامات تصنع على الوجه علامات كنت أقرأ على الوجوه رسائل كانت متعجبة لكنها مباركة لما أفعل.

هل أنّ الأنف الذي يحب العطور هو الذي يدجّنها كما تدجّن الحيوانات البرية لتكون قريبة من المعدة؟
نزلت كما فعل أهل التوابل، الأوّل في شاطئ بلاد يكثر بحّارتها وأقمت مطعمي البسيط هناك.. صنعت خلطة سمّيتها باسم المطعم الشعبي: بيري بيري أنا أستعرته من أسترالي قالي لي إنّه عندهم اسم نوع من الفلفل الأحمر الشائع في طبخهم في الأكلات الفواتح مع الثوم والخل.. الفلفل بحمرته وبمذاقه يبدو متحدّيا آكله يتحوّل الأكل معه إلى مصارع مع الطعم الحار.. كان البحارة في ذلك البلد يتبارون في الشراب ولا يعرفون الفلفل الحار الأحمر، فلما أقمت بينهم جعلوا تبارزهم على الفلفل كانوا يعرقون ويُؤَحْئِحُون لكنهم ما كانوا يتركون البيري بيري إلا حين ينهونه.. كانَ الثوم يساهم هو أيضا في الإحماء ولكن بشيء من التستر واللين.. كان الأكل مصارعة ضدّ المذاق القديم وكان عليّ أن أنوّع وأزيد في التشبث بالمذاق أكثر.. قال لي بعض البحارة هل عندك الهريسة؟ كنت أخفيها عن طالبها وأقدّمها في آخر أطوار الصراع مع المذاق، فيسقط من يذوقها صريعا لها ويعود يسأل أهي موجودة؟ فأقول لأجلك.. الآكلون لا يبحثون عنك من أين جئت وإلى أين أنت ذاهب يلهيهم الطعام عنك وتشغلهم التوابل عن الخوض في أسرارك.. بين الأكل الزبون والطباخ التاجر معاهدة ضمنية يأكل ولا يسأل عن المكونات لا يخشى أن يصاب بالأذى فقط عليه أن يصدّق حلاوة الطعام، وبعد ذلك ليكن ما يكون. التوابل علامات تصنع على الوجه علامات كنت أقرأ على الوجوه رسائل كانت متعجبة لكنها مباركة لما أفعل.. التوابل تصنع لك مع الآكلين ألفة يتعرفون عليك من خلال هذه الخلطة العجيبة التي اسمها طعام.

٭ أستاذ اللسانيّات في الجامعة التونسية

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول يوسف:

    مقال جميل

إشترك في قائمتنا البريدية