الشاعر والمترجم المصري بشير السباعي: المثقف في مواجهة كهنوت السلطة وخادميها

محمد عبد الرحيم
حجم الخط
0

القاهرة ــ «القدس العربي»: يعد بشير السباعي (15 يناير/كانون الثاني 1944 ــ 21 إبريل/نيسان 2019) مثقفاً ومفكراً من طراز فريد، قلما يتكرر في الثقافة المصرية، كحالة خاصة من الوعي الذي لا يستسلم ولا يكف عن المواجهات في مجتمع أصابه الكثير من التجهيل، وضربته أفكار ومعتقدات الصحراء. حاول السباعي طيلة مشواره أن يرسم ملامح تواصل بين ما انقطع في طريق الثقافة المصرية، مرحلة التنوير والتحديث، متجاوزاً حالة الرِدة التي تحياها الآن، تمثل ذلك في المؤلفات أو الترجمات الرفيعة عن لغات عدة، التي أثرت المكتبة العربية إلى حدٍ كبير. دوماً ما كانت تحمل هذه الكتابات والترجمات نظرة نحو المستقبل، كالوقوف والمناداة بكل ما هو جديد من ناحية، كالاحتفاء بقصيدة النثر، وقتما كان كتابها من المغضوب عليهم، إضافة إلى البحث عن أصوات مختلفة في الثقافة الأوروبية تنتقد بدورها مركزية أوروبا وصلفها. كذلك لم تهدأ معارك الرجل الذي لطالما خاضها، خاصة مع مثقفي الحظيرة، وما يرددونه من أفكار ومقولات تعمل جاهدة على تغييب الوعي، هذا التغييب والتجهيل المقصود جريمة كبرى في حق الشعب المصري، والعائق الأساسي في سبيل أي شكل من أشكال التحرر. نفي الرجل الأفكار والمعتقدات المطلقة، فلا آلهة جدد ولا شخصيات أسطورية استمدت وجودها من حالة الجهل العالم، لذلك نجد الرجل كصوت وحيد لا يفعل إلا ما يؤمن به ويعتقده، بغض النظر عن تبعات هذا الموقف. هذه ملامح سريعة من رؤى الرجل وأفكاره ..

دولة العسكر
بالطبع كان انقلاب يوليو/تموز 1952 نقطة فاصلة في التاريخ والوعي المصري، أو بمعنى أدق تجهيل هذا الوعي، ورغم التعبير الزائف لهذا الانقلاب عن بعض الأفكار الاشتراكية، إلا أن الرجل لطالما كشف عن هذا الزيف، وأدرك عواقبه، فلم يؤمن يوماً بتطور اجتماعي واقتصادي في ظل دولة يقودها العسكر، فهم موصومون في كل زمان، وتجاربهم في العديد من الدول التي تسلطوا عليها خير دليل على تفاقم أزماتها وضياع هويتها. وهو الأمر الذي حذر منه في ثورة الخامس والعشرين من يناير/كانون الثاني 2011، الثورة التي تنازعها كل من العسكر والأصوليين، ويرى أن أسباب خفوت الحِس الثوري أو تشويه هذه الثورة له سبب أعمق من الظاهر، فيرى أن الثورة قامت من أجل الحرية السياسية، وتحولت منذ اليوم الثامن والعشرين إلى ثورةٍ شعبية تطمح إلى الحرية والعدالة الاجتماعية والكرامة الإنسانية، وهذه كلها طموحاتٌ لا يمكن تحقيقها ضمن أطر المجتمع البورجوازي، فهو مجتمعٌ أساسه الحرمان والتهميش والإقصاء والامتهان للغالبية العظمى من الشعب. ومن ثم فإن تحقيق هذه الطموحات لا يمكن أن يتم إلا عبر تجاوز هذا المجتمع تجاوزاً ثورياً، وهو تجاوز غير ممكن أصلاً من دون قيام سلطة شعبية تعبّر عن أهداف الثورة الشعبية. من ناحية أخرى لم يسلم اليسار المصري من انتقادات السباعي، خاصة موقفه من الثورة، وأن الأحزاب الجديدة أو بعض من هذه التيارات لا تريد التعلم من أخطاء الماضي وتجاوزه، فالتحالف مع السياسيين الليبراليين البورجوازيين هي خيارات ليس من شأنها سوى الإسهام في هزيمة الثورة.

يرى أن الثورة قامت من أجل الحرية السياسية، وتحولت منذ اليوم الثامن والعشرين إلى ثورةٍ شعبية تطمح إلى الحرية والعدالة الاجتماعية والكرامة الإنسانية، وهذه كلها طموحاتٌ لا يمكن تحقيقها ضمن أطر المجتمع البورجوازي.

داء الأصولية
يرجع السباعي ما يعيشه المجتمع المصري ــ المتدين بطبعه ــ من مناخ أصولي إلى العديد من الأسباب، مهما بدا الشكل الخارجي للدولة أو كاريكاتيرية نظام الحكم، من دولة مدنية وخلافه من هذه المصطلحات الفارغة، فيرى أنه لم تحدث ثورة ثقافية تنويرية، ولم يجر فصل الدين عن الدولة وعن التعليم العام، والأمر متروك منذ عدة عقود لسيطرة الإسلاميين على التعليم العام وعلى القضاء وعلى الجانب الأوسع من الإعلام. والأموال تتدفق على الدعوة السلفية سعياً إلى درء خطر الثورة الدائمة… فنمو التيارات السلفية والإسلام السياسي تعبير عن احتدام التوترات الاجتماعية والسياسية الناجمة عن أزمة الرأسمالية المعاصرة وبربريتها، ما يقدم دليلاً جديداً على أن الخروج من مستنقع السلفية والإسلام السياسي مرهون بتحطيم الرأسمالية. وكان من آواخر تدوينات بشير السباعي على صفحته في الفيسبوك في 19 إبريل/نيسان «الشيء المشترك بين المتطرفين الإسلامجية ومستشرقي القرن التاسع عشر هو تصور أن الإسلام لا تقوم له قائمة إلا بوصفه دينا ودولة».
ما بعد الحداثة
ويرى السباعي ــ مخافة لكثيرين ــ أن ما بعد الحداثة وإسقاطها السرديات والمرويات الكبرى لم يكن شيئاً مطلقاً، كما أن حالة الارتياب التي يجسدها روادها لن تصمد وتُنتج شيئاً بحال، وهو ما تأكد بالفعل من حالة تجاوز ما بعد الحداثة، بعدما استنفدت كل طاقتها، رغم ما صاغته من تحولات كظرف تاريخي لابد منه، فيذكر كانت ما بعد الحداثة موضة ثقافية للعقدين الأخيرين من القرن الماضي. وعلى الرغم من أن ما بعد الحداثة بدت آنذاك مصطلحاً لا يتميز بمعنى محدد، إلا أن بالإمكان رصد مكونات رئيسة لها، لا يهمني منها هنا سوى الاستنتاج الريبيّ الذي انتهى إليه جان ليوتار في ما يتعلق بالمعرفة المعاصرة، فهو يرى أنها تتخذ شكلاً متشظياً باطراد، بدون أي ادعاءٍ بالوصول إلى الحقيقة أو التماسك العقلاني. وهو استنتاجٌ يعني انتهاء (المرويات الكبرى) وانتهاء المشروع الذي بدأ مع التنوير الفرنسي، من جهتي، ولا أوافق على الريبيّة الفلسفية لما بعد الحداثة، فإمكانية المعرفة واردة دائماً، ولولا وجود هذه الإمكانية لما أمكن إنتاج المعرفة أصلاً، ومشروع التنوير يستند إلى هذه الإمكانية كما يستند إلى إمكانية التحرر… المرويات الكبرى متباينة، فمروية الديانات الإبراهيمية الثلاث عن الخلق والحياة والموت والبعث والحساب والآخرة عموماً، هذه المروية مازالت تحكم تصورات ملايين من الناس عن العالم، تعبيراً عن اغترابهم الروحي، إن ما يقصده دعاة ما بعد الحداثة هو مروية صراع الطبقات، لكن صراع الطبقات الفعلي شيء لا سبيل إلى زواله مادام المجتمع الطبقي قائماً، وما المروية، سواء أكانت دقيقة أم غير دقيقة، غير تعبيرٍ عن الوجود الفعلي للصراع الطبقي، فكيف تسقط إذا كان الصراع الطبقي لم يسقط، بل ازداد حدة؟ (عن مدونة مبدأ الأمل)
……
بيبلوغرافيا ..
بشير السباعي من مواليد محافظة الشرقية عام 1944. حصل على ليسانس الآداب، جامعة القاهرة عام 1966. توالت مؤلفاته وترجماته التي بلغت 70 عملاً إبداعياً وفكرياً. حصل على العديد من الجوائز، منها.. جائزة أفضل الملمين بالروسية وآدابها من المركز الثقافي السوفييتي في القاهرة عام 1971، جائزة أفضل ترجمة من معرض القاهرة الدولى للكتاب عام 1996، جائزة مؤسسة البحر المتوسط للكتاب عام 2007، وجائزة رفاعة الطهطاوي من المركز القومي للترجمة عام 2010.
المؤلفات والترجمات.. «مرايا الأنتلجنسيا» 1995، «فوق الأرصفة المنسية» 2012. «فتح أمريكا، مسألة الآخر» 1992. «هنري لورنس: المملكة المستحيلة». «فرنسا وتكوين العالم العربي الحديث» 1997. «چويس منصور: إفتح أبواب الليل» 1998. «الأصول الفكرية للحملة الفرنسية على مصر، الاستشراق المتأسلم في فرنسا» 1999. «حالة غرامشي» 2000. «سأم باريس» 2001. «آلان جريش وطارق رمضان: حوار حول الإسلام» 2003. «مسألة فلسطين»2006 ــ 2009. «العرب والمحرقة النازية» 2010. «هنرى لورنس: الإمبراطورية وأعداؤها، المسألة الإمبراطورية في التاريخ» 2010. «ليون تروتسكي: الفاشية ما هي؟ كيف نهزمها؟» 2011. «جورج حنين: بلاء السديم (مختارات من أعمال كاتب سيريالي)» 2012.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية