“أبو كرتونة” ذو الكرامات والخوارق… دستور يا اسيادنا!

إذا كانت دولة مصر العظيمة سجّلت أمجادًا يفتخر بها العرب في العصر الحديث، من قبيل بناء السد العالي وتأميم قناة السويس وبطولات حرب أكتوبر وتحرير سيناء، فضلا عن الإسهامات العلمية والأدبية والفكرية والفنية وغيرها… فإنها ـ اليوم ـ تقدّم صورة سلبية عن علاقة السلطة بالمواطن، من خلال تشريع قوانين تقوّي شوكة الاستبداد، وتضرب في الصميم مبادئ حقوق الإنسان التي تكفل الكرامة والعدل وحرية الرأي والتعبير.
وجاءت التعديلات الدستورية التي وافق عليها البرلمان المصري وزكّاها الاستفتاء “الشعبي”، لتمنح عمرا مديدا لعبد الفتاح السيسي على رأس قمة الهرم في مصر، بتمديد فترة الرئاسة إلى ست سنوات (عوض أربع)، ومنحه إمكانية الترشح لستّ سنوات أخرى قد تجعل قبضته الحديدية مستمرة إلى سنة 2030، إلا إذا شاء حُكم القدر غير ذلك، وإذا تدخّلت إرادة الشعب.
لا يتوقف إعلام السيسي، هذه الأيام، عن إبراز ابتهاجه العارم، بسبب التصويت “الإيجابي” على التعديلات الدستورية، حيث صوّت لفائدتها 23 مليون ومئات الآلاف من بين 27 مليون ناخب. وبدا أحمد موسى، المطبّل صباح مساء للنظام، مُنتشيًا بتلك النتيجة وبنسبة المشاركة “الأعلى” في تاريخ مصر، على حد تعبيره، وداعيًا الأقلية التي قالت “لا” إلى الرضوخ لحكم الأغلبية التي قالت نعم، دون أن يؤكّد على حق الأقلية في التعبير عن آرائها ومواقفها النقدية من السياسة المتبعة في البلاد؛ مع العلم أن عدد الأقلية لا ينبغي أن يقاس بعدد رافضي التعديلات الدستورية (حوالي ثلاثة ملايين ناخب)، خاصة إذا أُضيف إليه مَن لم يُشاركوا في الاستفتاء أصلا، ومَن قالوا “نعم” خوفا أو رضوخا لحاجة مادية.
وفعلاً، فقد شاهد العالَم كيف كانت “كراتين” المواد الغذائية تُوزَّع على الكثير من المواطنين، إغراء لهم على المشاركة في الاستفتاء، وذلك في مَشاهد مخجلة لاستغلال الظروف الاقتصادية الصعبة وحالات الفقر وضيق ذات اليد، وهي عملية “رشوة بيّنة”، كما أوضح الإعلامي محمد ناصر في قناة “مكملين” نقلا عن علماء دين مصريين ممن أكدوا أن عملية “الكراتين” لا تندرج ضمن باب الزكاة، لكونها جرت بطريقة غير شرعية، ولا ضمن باب زكاة الفطر، لأن شهر رمضان الكريم لم يحل بعد.
ولكي يكتمل المشهد الهزلي، مشهد “رشاوى” الاستفتاء، بدا رئيس جامعة القاهرة مزهوا وهو يخطب أمام الطلبة، معلنًا ما يلي: إعفاء طلبة مختلف المؤسسات الجامعية المصرية من مصاريف الإقامة والتغذية خلال شهر رمضان، وأيضا إعفاء الطلبة من المصاريف التي ما زالت بذمّتهم، والتكرم على الطلبة بإضافة 5 في المائة إلى مجموع الدرجات خلال امتحانات البكالوريوس والليسانس. وختم رئيس الجامعة بشائره صائحا: “تحيا مصر، تحيا مصر!” ليعلّق عليه معتز مطر في قناة “الشرق” بالقول: “أوكازيون… أوكازيون”، في إشارة إلى الباعة الذين يصيحون ببضائعهم خلال مواسم التنزيلات أو التخفيضات.
والواقع أن ما تعيشه أرض الكنانة ـ في رأي صاحب حملة “اطّمن أنت مش لوحدك” ـ هو موسم “شراء ذمم وتحكّم في رقاب وإجبار وقهر”، لأنّ الغالبية العظمى التي شاركت في الاستفتاء وصوّتت بـ”نعم”، فعلتْ ذلك نتيجة الإكراه، أو طمعًا في “كرتونة” الزيت والسكر في عيد استفتاء “أبو كرتونة”. طبعا، لم يكتف معتز مطر بالكلام، وإنما عزّزه بالدليل والبرهان من خلال إدراج لقطات فيديو مصوّرة خلسة في مصر. قالت سيدة مبررة الازدحام على “الكرتونة” أمام مكاتب اللجان الانتخابية: “الناس جيعانة وتعبانة”! وهو كلام لخّص الحكاية كلها: لو لم يكن الناس جوعى ومتعبين لما راحوا إلى هناك. ولكن، “الله غالب”، بحسب لازمة معتز مطر!

الرقص تلقائي أم تمثيلي؟

لكن السؤال المحير هو: هل الرقص في الشوارع وأمام مكاتب اللجان الانتخابية ينطبق عليه أيضًا ذلك المبرر: مبرر (الجوع) و(التعب)؟ فقد صوّرت الكاميرات مواطنات ومواطنين يرقصون جماعات وأفرادا في مختلف المحافظات المصرية، ابتهاجًا بالاستفتاء. ولم يقتصر الرقص على الشباب والكهول من النساء والرجال، بل امتد حتى إلى المسنّين والعجائز… وكذا رجال الدين. وحتى لا نظلم هؤلاء، فالحقيقة أن المَشاهد المتداولة لم تُظهرهم يرقصون (وقد يكون رقصا صوفيا)، ولكنهم كانوا متصدّرين مسيرات راقصة على أنغام المزامير وإيقاعات الطبول.
يقول المغاربة في مثل هذه المقامات: “الحال ما يشاور”، بمعنى أن الحالة النفسية التي تعتري المرء قد تقوده ـ دون إرادته ـ إلى المشاركة في طقس جماعي، غالبا ما يكون الرقص. المدافعون عن تلك المَشاهد قالوا إنها تعبير عن الفرح الشعبي التلقائي، وهي من العادات المألوفة في مصر خلال المناسبات الاجتماعية والوطنية. والمعارضون اعتبروها “مشاهد تمثيلية” جرت بإيعاز من مؤيّدي السيسي، مستدلّين على ذلك ـ مثلا ـ بحالتين: حالة مُسنّة مُقعدة قامت من على كرسيها المتحرك وانخرطت في وصلة رقص جماعية، وحالة امرأة حديثة العهد بالولادة قامت بوضع مولودها أمام مكتب لجنة انتخابية، قبل أن تُنقل إلى المستشفى لاستكمال الفحوص الطبية.
ألم يقل شاعر العرب أبو الطيب المتنبي قديما:
لا تحسبوا رقصي بينكم طربا… فالطير يرقص مذبوحا من الألم؟
ومن بين الذين أخذتهم الحال، المطربة اللبنانية نانسي عجرم التي غنّت لعبد الفتاح السيسي “راجل ابن راجل” تشجيعًا للمصريين على المشاركة في الاستفتاء، ما جرّ عليها انتقاد الكثيرين، باعتبارها تزكّي الديكتاتور الذي قتل العديد من معارضيه وزجّ بآخرين في السجن، وحرّض النقابات الفنية على الفنانين المعارضين، مثلما حصل مع خالد أبو النجا وعمرو واكد وغيرهما. ومنذ أيام قلائل، شوهد واكد وهو يشكو “مظلوميته” لقناة “فرانس 24″، مظلومية جعلته يرفع ـ مع مواطنين مصريين آخرين ـ شعار “باطل” في وجه التعديلات الدستورية.

أهو مسيح جديد؟

ولكي نفهم بعضا من خلفيات هذا المشهد، علينا أن نستحضر الصورة التي يحاول إعلام النظام أن يسوّقها عن عبد الفتاح السيسي: صورة الرجل ذي الخوارق والكرامات، الذي يقترب من مقام الأنبياء (معاذ الله)، ومن آخر “خوارقه” مسح يديه على عين امرأة مقعدة، فرأت النور وقامت من على كرسيها.
الحكاية رواها الإعلامي نزيه الأحدب في برنامجه “فوق السلطة” الذي تبثه “الجزيرة”، حيث قال: بعد وصفه مِن لدن مرجع أزهري بأنه رسول من عند الله، وبعد رؤية كاهن مصري أن الله اختاره لإنقاذ مصر من الموت، وبعد ادّعاء صحيفة مصرية أن سيّد الخلق (الرسول محمد صلى الله عليه وسلم) زاره في المنام بعد ما خرج من بطن أمه ساجدا متبسما للحاضرين، كان التسلسل المنطقي لهذه الروايات يَـعِـدُ بإعلانه قدّيسًا، وليّا، أو أكثر، وقد تأخرت مراسم التطويب. عبد الفتاح السيسي مَسَحَ على مصابة بالسرطان، قابلته وهي على كرسي متحرك، فتحركت عندما رأت النور، ومشت… وكان “دليل” ذلك فيديو يُظهر السيدة المعنية ويد السيسي تمسح وجهها، فتقف من على كرسيها صارخة مبتهجة: “شفت نور العيون”!
وبنوع من التلميح الذكي، بدأ نزيه الأحدب برنامجه بالحديث عن معاني تسمية “المسيح”، مميّزا ما بين المسيح عيسى عليه السلام الذي كان لا يمسح ذا عاهة أو مرض إلا برأ، وكان يحيي الموتى بإذن الله، وبيْن المسيح الدجال الذي يُعدّ ظهوره من علامات الساعة الكبرى عند المسلمين، وقيل إنه سُمّي بالمسيح لأنه ممسوح العين الواحدة، يسعى في الخراب والضلال، ولا يصدّقه إلا الجهّال!

*كاتب صحافي من المغرب

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول خليل ابورزق:

    الاستفتاء مزور من المنبع و السبب هو افتقار المجتمع الى الحرية و خاصة الحرية السياسية… معظم قيادات المعارضة في السجون اصلا أو المنافي و من يتجرأ على التحدي ينتهي بالفصل من نقابته او الحبس او الخطف او القتل بتهمة الارهاب.
    سؤال بسيط هل وسائل الاعلام القومية و مقدرات الدولة مفتوحة للمعارضة باعتبارها ملكا لكل الشعب؟
    مجرد ان تتجاوز نسبة الموافقة ال 60% فانها تعني ان هناك خلل
    لا يمكن ان تكون هناك اي انتخابات نزيهة بدون حرية الفكر و التعبير و التنطيم و الاعلام
    الانتخابات الوحيدة الحرة التي شهدتها مصر في كل تاريخها هي انتخابات الرئاسة في مصر في عام 2012 و حصل فيها الفائز على 52%

  2. يقول S.S.Abdullah:

    من وجهة نظري أبدع المغربي (الطاهر الطويل) في اختيار عنوان (“أبو كرتونة” ذو الكرامات والخوارق… دستور يا اسيادنا!) وطريقة تحليل وطرح أسفل منه، لما تمثله سلطة المشير عبدالفتاح السيسي قد جمعت فلسفة الشيعي وحكمة الصوفي في نتائج هذا الاستفتاء في عام 2019 لمصر،

    وأضيف أنا لاحظت الكثير لم ينتبه، إلى أن بعد 8/8/1988 حصلت وحدة هدف بين من يؤمن بضرورة تسريع عودة المسيح، ومن يؤمن بضرورة تسريع عودة المهدي،

    ومن هذه الزاوية أفهم كانت وحدة أهداف الجميع، في إيران وأمريكا والكيان الصهيوني ودول حصار قطر بعد 5/6/2017.??
    ??????

إشترك في قائمتنا البريدية