الجزائر-“القدس العربي”: دخلت الأزمة السياسية في الجزائر أسبوعها الحادي عشر بدون أن يلوح لها حل في الأفق، ففي كل مرة تتقدم فيها الأمور خطوة سرعان ما تتراجع خطوتين إلى الخلف، والجيش الذي ينتظر منه الجميع الحل، يحاول النأي بنفسه عن التدخل مباشرة في الأزمة القائمة، التي تزداد تعقيدا مع مرور الأيام، والوقت يمضي.
يمكن القول بدون مبالغة إن الرئيس عبد العزيز بوتفليقة رحل عن السلطة وترك الوضع ملغما، بدليل مرور أكثر من شهر عن انسحابه من الرئاسة، والوضع يراوح مكانه، والحل للأزمة القائمة لم يلح في الأفق بعد، وكل طرف متشبث برأيه، ومرور الوقت ليس في صالح أحد، لا النظام ولا الشعب، في حين أن موعد الانتخابات الرئاسية ما زال محددا للرابع من تموز/يوليو، والأمور تسير نحو المجهول.
أسبوع الاعتقالات
أكثر ما ميز هذا الأسبوع هو تحرك القضاء في ملف الفساد، والشروع في استدعاء وتوقيف رجال أعمال كانوا إلى وقت قريب يعتبرون من الذين لا يمكن الاقتراب منهم أو مساءلتهم، بل إن أغلبيتهم كان يتمتع بحصانة على كل المستويات، وبعد أن كانت أجهزة الأمن قد أوقفت رجل الأعمال علي حداد المقرب من السعيد بوتفليقة شقيق الرئيس السابق والرجل القوي في السلطة السابقة قبل بضعة أسابيع، لكن القضية لم تأخذ أبعادا كبيرة، لأن التوقيف تم في الوقت الذي كان فيه حداد يستعد لمغادرة التراب الوطني نحو تونس، وفي حوزته مبلغا ماليا، ثم تحدثت وسائل الإعلام عن أن حداد مثل أمام قاضي التحقيق فيما يتعلق بمحاولة إخراج مبلغ مالي دون سند بنكي، وكذا حيازة جوازي سفر، وبما أن الأمر توقف عند حداد، فإن القضية دخلت طي النسيان، في ظل عدم وجود معلومات جديدة وتطورات بخصوص هذا الملف، حتى وإن كان قاضي التحقيق قد أمر بإيداع علي حداد الحبس المؤقت على مستوى سجن “الحراش” ضواحي العاصمة، لكن ملف رجال الأعمال عاد إلى الواجهة هذا الأسبوع، بالإعلان عن توقيف كل من الإخوة كونيناف وهي العائلة التي كانت توصف بالحاكمة بالنظر إلى علاقتها الوطيدة مع عائلة الرئيس السابق، وهم مجموعة من رجال الأعمال، وأغلبيتهم غير معروفين لدى الرأي العام، وحتى صورهم غير معروفة، عدا أحد الأشقاء وهو كريم كونيناف، غير أن معظم وسائل الإعلام الجزائرية تنشر صورة عمر كونيناف وتقدمه على أساس أنه رضا كونيناف، فهذه العائلة سعت أن تبقى مجموعة من الأشباح، وحتى اسمها لم يكن متداولا في وسائل الإعلام، مع أنها مصنفة ضمن أغنى أغنياء الجزائر، وفي اليوم نفسه تم توقيف رجل الأعمال الأغنى في الجزائر إيسعد ربراب، والذي جاء توقيفه وحبسه على ذمة قضية فساد مفاجئا، على اعتبار أن ربراب لم يكن محسوبا على السلطة الراحلة، بل إنه عانى الكثير من الضغوط خلال السنوات القليلة الماضية، واشتكى عدة مرات من عرقلة مشاريعه، رغم الفائدة الاقتصادية التي تعود على البلد من ورائها، وهو ما أثار الكثير من التساؤلات، لأن ربراب قد يكون فاسدا، حسب بعض المراقبين، لكن الأكيد، على حد قولهم، أنه أقل فسادا من كل رموز نظام بوتفليقة، كما أن ربراب يمتلك مشاريع استثمارية حقيقية في الجزائر وفرنسا وإيطاليا وحتى في أمريكا اللاتينية، عكس رجال أعمال آخرين جمعوا ثروات من المشاريع التي كانت الدولة تمنحها لهم بفضل علاقاتهم مع سلطة بوتفليقة، كما تم استدعاء رجل الأعمال الشهير محي الدين طحكوت للتحقيق، علما أنه وهو نجله وشقيقيه ممنوعين من السفر، كما تم توقيف خضير عولمي أحد رجال الأعمال، والذي يمتلك وشقيقه تمثيل علامة ألمانية شهيرة للسيارات.
وقد أدى توقيف ربراب إلى انقسام في الشارع الجزائري، بين من يعتبر أنه ضحية، وأنه لا يستحق الحبس، على الأقل قبل توقيف ومحاسبة كل الذين عاثوا فسادا في الجزائر طوال سنوات حكم الرئيس بوتفليقة، وآخرون يعتبرون أن ربراب هو أيضا من الذين استفادوا من ريع النظام الذي سبق بوتفليقة، وأن الحساب والعقاب يجب أن يبدأ منه ويصل إلى الفاسدين الذين ظهروا وتغولوا في عهد الرئيس السابق، لكن هناك إجماعا على ضرورة أن يلعب القضاء دوره بكل استقلالية ودون ضغوط أو وساطة، وهو الأمر الذي ألح عليه قائد الأركان الفريق أحمد قايد صالح، الذي وجد نفسه مضطرا لتوضيح كلامه السابق ووعوده بشأن متابعة القضاء لكل الفاسدين والمفسدين، إذ أكد أن كلامه لا يعني أنه إملاءات للقضاء، بل هي ضمانات من المؤسسة العسكرية للقضاة ليفتحوا كل ملفات الفساد، وحتى النيابة العامة لمجلس قضاء الجزائر العاصمة، أصدرت بيانا تقول فيه إنها تحركت من أجل فتح ملفات الفساد بعيدا عن أي تعليمات أو إملاءات، وأنها تلقت شكاوى عديدة بخصوص قضايا فساد، وتحركت بناء على إرادة منها.
موقف الجيش
ما زال موقف الجيش يتراوح بين الوضوح والغموض، رغم التصريحات المتكررة والخطب الأسبوعية التي يلقيها الفريق أحمد قايد صالح قائد أركان الجيش، ففي كل أسبوع يتطلع الجزائريون إلى الخطاب أو الخطابين اللذين يلقيهما قائد أركان الجيش خلال زياراته الميدانية، والتي تعتبر بوصلة للوضع السياسي القائم في البلاد، خاصة وأن خطب قائد أركان الجيش تتوالى ولا تتشابه.
الخطاب الأول الذي ألقاه الفريق أحمد قايد صالح الأسبوع الماضي جاء محبطا نوعا ما، لأنه في الوقت الذي كان فيه الكثيرون ينتظرون إعلانا يوضح الرؤية بشأن الحل والمخرج من الأزمة القائمة، أبدى الفريق تمسكا بالرئيس المؤقت عبد القادر بن صالح، وبمؤسسات الدولة، والتي فهم أن المقصود بها هي الحكومة، وهو ما أثار نوعا من الاستياء، جعل قيادة المؤسسة العسكرية تصحح الموقف في اليوم التالي، بخطاب جديد أشاد فيه قائد أركان الجيش بالمظاهرات وبسلمية الحراك، وجدد التأكيد على أن كل الحلول تبقى متاحة.
موقف المؤسسة العسكرية يبدو غير واضح، فهي تتحرك على حقل ألغام، فمن جهة تحاول مواكبة الحراك الشعبي، مع تفادي التدخل بشكل مباشر في العملية السياسية حتى لا تتهم بأنها دبرت انقلابا على الرئيس السابق، كما أنها لا تريد الدفع بالبلاد نحو الفراغ الدستوري، لتفادي فتح الباب على مجاهيل كثيرة، فضلا عن الضغوط الداخلية والخارجية لأن جهات كثيرة استفادت من سلطة بوتفليقة وفسادها، وهي جهات لديها من الإمكانيات والقدرة للتشويش وإفساد الحراك والدفع بالوضع إلى الانهيار والخراب، كما أن جهات خارجية تدفع أيضا لإفساد هذه الانتفاضة الشعبية، لأن الحالة الجزائرية تعد الاستثناء إلى حد الآن في كامل الثورات العربية، وهو ما لا يرضي الكثير من الأطراف والأنظمة التي كانت منتشية لأن الربيع العربي تحول إلى خراب ودمار.
أبواب على المجهول
استمرار الحراك والاحتقان في الشارع الجزائري وتردد النظام في الذهاب إلى الحلول التي يريدها الشعب، يؤكد أن البلاد في مأزق حقيقي، فلا الشارع مستعد للتنازل عن مطالبه، ولا النظام يبدو راغبا أو قادرا على تقديم المزيد من التنازلات، خاصة فيما يتعلق بالخروج عن الإطار الدستوري، وهو ما يوحي بأن الأزمة ستدوم لأسابيع وربما لأشهر، خاصة وأن الحوار غائب بين جميع أطراف الأزمة، فالسلطة أرادت أن تحاور الأحزاب فجأة فوجدت نفسها تحاور نفسها، بل إن رئيس الدولة المؤقت دعا إلى مشاورات غاب عنها هو مثلما غابت عنها الكثير من القوى السياسية، وكللت بالفشل الذريع، وهو ما يؤكد استمرار حالة الانسداد إلى حين.
الأوراق الموجودة لدى السلطة قليلة، لكن واحدة من الأوراق التي يمكن أن تؤتي أكلها هي التسريع في محاسبة المسؤولين عن الفساد، فالخطوة التي أقدم عليها القضاء بتوقيف ومساءلة عدد من رجال الأعمال المحسوبين على الرئيس السابق، وكذا توجيه استدعاءات لوزراء سابقين، ولرئيس الوزراء السابق أحمد أويحيى الذي يمقته الشارع الجزائري، استقبلت بنوع من الارتياح، لكن المتظاهرين الذين نزلوا إلى الشارع الجمعة طالبوا برأس العصابة، كما قالوا، ودعوا إلى استدعاء شقيق الرئيس السابق السعيد بوتفليقة وكل المسؤولين الذين استفادوا من المال العام أو ساهموا في تبديده ونهبه، وكل رجال الأعمال الذين لم يستدعهم القضاء بعد، وهذه الخطوة إن تمت، فإنها ستعيد السكينة إلى الشارع، لأن شكوكا بدأت تسري في الشارع تقول إن “العصابة” ما زالت تحكم من وراء الستار، لذا فإنه ما لم يتم جلب الحيتان الكبيرة إلى شباك القضاء، فإن الشكوك ستزيد وتتعاظم، والإقدام على خطوات جريئة من شأنه طمأنة الشارع الجزائري، وإعطائه ضمانات أكثر، تجعله ربما يثق في أن أشياء تغيرت، وأن المسار الدستوري الذي يدعوه النظام إلى البقاء في إطار قد يأتي له بالتغيير المنشود، لتبقى كل الأنظار مشدودة لما سيحدث خلال الأيام القليلة المقبلة، سواء فيما يتعلق بالخطاب الذي سيلقيه قائد أركان الجيش الاثنين أو الثلاثاء، وكذا فيما يتعلق بمواصلة التحقيق مع المتورطين في نهب المال العام، علما أن قائد أركان الجيش وعد بإعادة الأموال التي تم نهبها خلال العشرين سن الماضية.