القصة القصيرة المغربيَّة وجماليَّة المَحكي

حجم الخط
0

■ إن علمَ الجمالَ فرع من فروع نظرية الأدب، فلا حديث عن الأدب بمعزل عن الجمال، بما هو فصيل فلسفي وترعرع تحت فيئه وتحت عريشه الضليل. ففي منتصف القرن الثامن عشر استقل علم الجمال بمنهاجه ومصطلحاته وعناصره عن باقي العلوم الأخرى. مقابل ذلك، فالجمال موجود في الطبيعة الحية والجامدة؛ في الإنسان وتصرفاته. ففي مستهل القرن التاسع عشر استطاع علم الجمال أن يحلق فوق باقي العلوم، منشدا الحرية التي كان يتوق إليها؛ بذلك حقق جزءا مهما من طموح القائمين بالشأن الأدبي والثقافي. علاوة على ذلك، فنظرية الفن تضم ثلاثة أبواب كبيرة هي: الأدب والرسم والموسيقى. إن علم الجمال كامن في الأدب، وذلك عندما يربط الفن بالواقع، أو عندما يصبح جمالُ الأدب صورة للواقع. ونتيجة لذلك، أصبح لعلم الجمال تعريفٌ ذائع الصيت؛ «هو علم جوهره الفن يتم عبره استيعاب وإدراك العالم بواسطة الإنسان»؛ وبالتالي قد ألف ـ أي التعريف ـ بين مختلف التوجهات، التي تهتم بعلم الأدب.
يغدو مدخلـُنا، في ذلك، فكرُ طه حسين. لا ضير أن نشير إلى الكيفية التي يتمظهر فيها الجمال في فكر عميد الأدب، حيث يقول هذا الأخير «خصام ونقد»: «إن اللغة هي صورة الأدب، وأن المعاني هي مادته وإن صورة الأدب ومادته لا يفترقان، أو هما شيء واحد، إن شئت، وأضف إليهما عنصرا ثالثا، إن صح أن يستعمل العدد في مثل هذا الموضع، هذا العنصر يلزمهما لزوما لا فكاك منه وهو عنصر الجمال». وتأسيسا على ذلك تربع علم الجمال في الخطاب الأدبي، بل لا تقوم قائمة الأدب من دون هذا الغطاء الجمالي، الذي يلف مكوناته الإبداعية. فالجمال، حسب طه حسين، لا يكمن فقط في اختيار المعاني المناسبة والألفاظ الرنانة، بل التوليف بينهما في انسجام تام. علاوة على ذلك، فمن بين أهم مقومات الخطاب الأدبي، عند عميد الأدب، هو عندما تـُلف كلٌ من المعاني والألفاظ في ثوب الجمال الفني، حينئذ نتحدث عن الإبداع الحقيقي.
وفي سبيل ذلك فالجمال الفني، إذن، شأن داخلي في الخطاب الأدبي، يتوسل اللفظة المناسبة والمعنى الأنجع داخل تصوير مميز؛ وهذا كله يسعى نحو تحقيق الهدف الأسمى من الأدب، ألا وهو: بلاغة الإمتاع. فمسار الجمال الفني في الخطاب القصصي يكتسي طابعا تشعّبيا، بمعنى أنه يمتح ويتلون بمختلف التيارات الفكرية والنفسية والأيديولوجية والتاريخيّة أيضا. لهذا السبب نجد تدرجا في الوعي بأهمية المقاربة الفكرية للواقع، وفيها يسكن الجمال الفني، كمقاربة تهدف نحو تحقيق الانسجام والتكامل في بناء المجتمع الواحد.

ركزت جماليات القصة المغربية على ما هو خارج الذات الكاتبة؛ ظروف اجتماعية، سياسية، نفسية إلخ. ومع حصول المغرب على الاستقلال تبوصِل الجمالُ الفنيُّ في القصة في اتجاه اقتناص هموم ومشاكل الذات المبدعة للحكي من الداخل.

إن النسق الداخلي للقصة المغربية بالخصوص، من حيث إنه موطن جمالها، قد عرف تحولات جوهرية مهمة، خصوصا ما تعلق بالشكل والنسق الخارجي؛ ففي منتصف الخمسينيات من القرن الماضي ركزت جماليات القصة المغربية على ما هو خارج الذات الكاتبة؛ ظروف اجتماعية، سياسية، نفسية إلخ. ومع حصول المغرب على الاستقلال تبوصِل الجمالُ الفنيُّ في القصة في اتجاه اقتناص هموم ومشاكل الذات المبدعة للحكي من الداخل. إن هذه الالتفاتة جاءت على شكل تسونامي حقيقي اجتاح العالم بأسره، وكان للأدب المغربي نصيب منه. في هذا المسعى نجد أن القصة المغربية بدأت تفيد من العلوم الإنسانيَّة بمختلف مشاربها المعرفيَّة، التي اقتحمت الخطاب الإبداعي عموما وجنس القصة بالخصوص. ومهدت لسمت واضح نحو اجتراح مواضيع ذات علاقة بجوِّانية الإنسان الحديث. فما كان للحلم والرؤية واللاشعور والهو والليبيدو، إلا أن تطفوا كجزر عائمة وأرخبيلات فوق سطوح الإبداع.
إن هذا الصعودَ الصَّاروخيَّ للذات، وهيمنتها على المحكي له مبرراته ومسوغاته، في مقدمتها صعودُ نجم الرومانسية في الأدب العالمي، بما هي تبغي الكمالَ والجمالَ في جوهر الإنسان وتخاطبه من الداخل. وتمحي صورته السلبية، التي لفقتها له الحربان الكونيان في القرن الماضي، فضلا عن تصوير جوهره ذي المنابع الطُّاهرة التي تصفوا عند الأشـُنَّة والغياض، متعاليا بذلك عن جوهر الشر الكامن فيه. ونتيجة لذلك بدأ الإحساسُ والشعورُ بثقل المسؤولية الملقاة على عاتق كاتب القصة القصيرة بالظهور. فما كان للتخطيط والتفكير وبلورة الإحساس، كمكونات أساسية، إلا أن تصبح جميعُها من صنعة الكتابة القصصية. فضلا عن ربط جسور الأدب عموما بالحياة وبالعالم وبالناس؛ وتماشيا مع ذلك يظل البعدُ الرومانسي حاضرا في القصة القصيرة المغربية، من خلال أعمال روادها، فالاحتفاء بالذات يكون نابعا من خلال بنية تلفظية تـُعنى بالضمير أكثر مما تـُعنى بالبناء ككل، ومنه يتم التداخل على مستوى الذات والآخر، إلى حد التواشج والتلاحم والانسجام.
لكن الاهتمام بالذات لا يصفو معينه، عندما نريد أن نعطي تعريفا جامعا مانعا للذات المتحكمة في وعي الحكي القصصي، فضلا عن أن مفهوم الذات، فلسفيا، ينحو نحو التقلب اللانهائي؛ وبالتالي فهي عصية عن الاختزال وعن التنميط. في هذا الاتجاه سنجد أحمد بوزفور يخاطب الذات كما يخاطب الآخر في سيرورة تفاعلية ترمي بظلالها على القارئ. يقول في قصة «اللوح المحفوظ» من ديوان السندباد: «ونزل من الباب الخلفي للكار، وفي يده الحقيبة الجلدية الحمراء» إن الآخر ما هو إلا الذات الفاعلة بإسقاطاتها المعرفية والثقافية والتاريخيّة والسيكولوجية. بهذا التداخل التلفظي بين الذات والآخر تارة أو بين الذات ونحن أو بين الذات وهُم ضمير الجمع الغائب تارة أخرى، يزرع فتنة المحكي في سِدْرة المنتهى، وتكتسي معه الحكاية جمالياتها الفنية والدلاليَّة.
مما سبق يمكننا أن نقول: إن للحكي بؤرا متعددة، بمعنى أن توصيفات الحكي تستقي فعاليتها ونجاعتها من عدة حقول معرفية، تتراصف أمام الكاتب، ويختار بعد ذلك المنهج المناسب والمعجم الشائق اللائق، ولكي لا يتشتت الخيط الناظم، لا ضير أن نشير إلى عناصرَ إضافية تتوهج معها جمالية القصة، وهي ذاهبة نحو بناء عالمها الخاص. يشير في هذا الصدد الكاتب المغربي محمد معتصم إلى ثمة مكونات، لابد للقاص أن يتناولها ويدمغَ بها حكيهُ، نقف عند أهمها وتمفصلاته، التي تؤثر في البناء الجمالي العام للقصة القصيرة :
أ ـ بناء المحتوى وأثره في الصياغة الجماليَّة للقصة القصيرة:
إن الإنتاج القصصي هو بناء واستراتيجية متفاعلة العناصر والمكونات. فلا يستقيم عودُ القصة القصيرة من دون الحوافز، بما هي الوسيلة والأداة التي تساعد على تنامي الأحداث، وتسارعها نحو تأزيم جميع عناصر الحكي من شخوص ومكان وزمان. وفي هذا الإطار يشير الباحث حميد لحمداني في كتابه «بنية النص السردي»، إلى أن الحوافز تقتضي الخضوع لمبدأ السببية، وللنظام الداخلي؛ وهذا من أكبر الروافد الجماليّة، التي تضخ الحيوية والرشاقة في جسد القصة بصفة عامة. علاوة على ذلك فالحكي هو مجموع الأحداث المتداخلة التي تشكل الحكاية، فالحوافز لا تزيغ عن اللغة ووظائفها، كما أن للزمن يد طولى في التأثير المباشر على تسلسل الأحداث في نسق وناموس معين وخاص.
وفي هذا الإطار، فالتقيد بالزمن، في الدراسات الحديثة، أصبح غير مجد وغير ملزم للقاص. فأسطورة الزمن التصاعدي في الحكي أصبحت متجاوزة في التاريخ، وتنأى عن الواقع الذي يفرض التعاقب فرضا طبيعيا، فكما أشار الباحث الشكلاني الروسي الكبير توماتشفسكي أن ثمة علاقة جوانيَّة بين تعدد الحوافز أو الحوافز المشتركة، في المتن الحكائي، والرؤية الفنية، التي يسعى إليها الإبداع عموما.
وفي المقابل نجد عند عالم البنيوية الفرنسي رولان بارث ارتباط الحوافز بالألفاظ والعبارات. من خلال البحث عن المعنى الثاوي في الخطاب القصصي، فالحوافز، عند بارث، تـُخلق من اللغة ومن الدلالات. فالتبئير، حسب سعيد يقطين، ينصب على المفردات لاستخراج الوظائف، التي تقوم بها والحوافز التي يسعى إليها الكاتبُ.

من الطبيعي أيضا أن يحتل الحكي جزءا كبيرا من تواصلاته اليومية، فإلى جوار ذلك فكل الأجناس الأدبية تجعل من الحكاية عمودها الأسنى، وعليها تبني صرحها الوجودي.

ب ـ البناءات المساعدة لانفتاح جنس القصة القصيرة على الظاهرة الإنسانيّة:
في ظل هذا التجاذب المعرفي، حول بناء محتوى الإبداع القصصي بين مختلف المدارس والتيارات، إلا أن هناك اتفاقا حول شيء مهم، اعتبر كجسرٍ يوحد مختلف الروافد المعرفية، التي تغذي الفكر الإنساني بعامة. فالجماليّة أو بلاغة الإمتاع تكون حاضرة ومتحققة من خلال إقحام مكونات ذات صلة بالواقع، تدخل في تناغم وباقي المكونات الأخرى. غير أن البناء لا يكتمل له صرحٌ إلا بالوقوف على البناءات العامة، التي تسيج محتويات القصة القصيرة، وترمي بها في أتون إثبات وجود الذات، كجنس أدبي قادر على احتواء الظاهرة الإنسانيَّة. وفي هذا الصدد نشير إلى بعض هذه الأنواع في عُجالة، ومن بين هذه البناءات التي تفيد المحتوى، نجد:
1ـ البناء المنغلق: وفيه يكون القاص شديد الحرص على الاختزال وتقليص الهوامش المولدة للحكي والفعل السردي.
2 ـ البناء المتفجر: ومنه ينطلق الكاتب لينسج عوالمه الخاصة، ويتيه في دروب الإبداع. مفجرا العلاقات، حيث تغدو القصة مشتلا للعديد من الاحساسات المتدفقة في سرد الحكاية.
3 ـ البناء المتشظي: وفي هذا الضرب تصبح القصة تعرف التشتت والتلاشي وعدم الانسجام بين مكوناتها؛ وبالتالي تختزل على شكل لوحات فنية، ينعدم فيها الترابط، الذي يحفظ ماء النص القصصي.
إن لهذه البناءات الخارجية للنصوص القصصية فعلا سحريّا في التأثير المباشر على تلقي القصة القصيرة في المغرب. إذن، فبلاغة الإمتاع لا تقف عند حدود الحوافز والوظائف، بل تتعدى ذلك لتصل إلى ما له صلة بالبناء الخارجي ككل. كما أن ربط المنتوج الإبداعي، بما هو واقعي شيء تثمنه التوجهات الحديثة في الإبداع القصصي، شريطة أن يتحقق الانسجامُ والتوافقُ بين مختلف المكونات الأخرى.
ومن الطبيعي أن يعي الإنسان دورَه في الوجود، ومن الطبيعي أيضا أن يحتل الحكي جزءا كبيرا من تواصلاته اليومية، فإلى جوار ذلك فكل الأجناس الأدبية تجعل من الحكاية عمودها الأسنى، وعليها تبني صرحها الوجودي. فلا تقوم قائمة الجنس الأدبي من دون هذا الملفوظ، الذي يخيط لـُحمة السرد. فالحكاية تخترق القصة والرواية والمسرح والسينما والفن التشكيلي إلخ، غير أن علاقتها بالسرد تظل ملتبسة. وبشكل مماثل، فالحكاية تغتني بالرموز والإشارات، وتجعل من الإبداع وصيدا مثاليا نحو تشكيل الواقع عن طريق الحكي. بالمقابل فالبناء السردي للمواضيع القصصية، شديدة الترابط والارتباط بالمتغيرات التي تطرأ داخل المجتمع، وإذا كنا نتحدث عن المجتمع المغربي مثلا؛ فإن مواضيع القصة راصفت التحولات التي مرّ منها المجتمع بُعيد الاستقلال. فهناك مواضيع تخص التاريخ (محمد الزنيبر) في مجموعته «الهواءُ الجديد»، وهناك مواضيعُ لها ارتباط بالرومانسية الذاتية (عبد المجيد بن جلون) في باكورته القصصية «وادي الدماء»، وهناك مواضيعُ ذات البعد الاجتماعي (محمد زفزاف) في مؤلفه «بائعة الورد» والشق السياسي كان للمرحوم (محمد غرناط ) في «داء الذئب» إلخ. هذه الفسيفسائية اغتنت بفعل الدراسات الغربيَّة، وانفتاحها الدائم على تشكيل وعي جديد ومسجور بالتغيير نحو ما هو أفضلُ وأنجعُ.

٭ كاتب من المغرب

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية