نزل الشعراء

في مدينة عربية موازية وعلى شاطئ عربي هادئ مواز يقام شاهقا عامرا نزل للشعراء، ليس نزلا يقيمون فيه، بل هو نزل فتحوه لمن أراد أن يقيم، فتحوه بحرّ مالهم الذي جمعوه من قديم الزمان، من بلاطات الدنيا المختلفة بدءا من بلاط النعمان بن المنذر في الحيرة. الحقيقة أنّ النعمان بن المنذر كان هو أوّل من وضع خريطة طريق للشعراء. أوصاهم أن يتكلموا في بلاطه لغة مشتركة سيسميها المستشرقون في مقبل الأزمنة كوينية، أي لغة مشتركة.
كان الشعراء يحملون لهجاتهم من شبه الجزيرة العربية وما جاورها، ويرحلون بها إلى النعمان يمدحونه فوحّد لهجاتهم واستخلص لهم منها هذه اللغة المشتركة التي كانت خليطا جميلا صاغوا به شعرهم. كان الشعراء وهم ينتظرون أدوارهم لمدح صاحب نعمتهم يقيمون في القصر، ويخافون أن يطردهم غضبا من قصائد لا تعجب أو من الإسراف في الشراب. قرر كبير الشعراء وكان من خزاعة أن يدّخر كلّ واحد منهم درهما ممّا يجود به النعمان كي يبتنوا به خانا يقيمون فيه، ويقيم فيه كل زائر للحيرة من نجد وما جاوزها. كان عليهم أن يشتروا الأرض التي عليها يقام الخان، لكنّ شاعرا ذكيا شابا لم يكن من الرجاز قال لأصحابه: هبكم اشتريتم أرضا مالحة واهترأت فعلى أيّ أرض ستبنون الخان؟ أرى أن نجمع المال ونشتري الأرض حين يكون البناء ممكنا.
جمع الشعراء بعض الدراهم لكنّهم كانوا يدفعون منها لشعراء لم يجزهم النعمان لا لأنّ قصيدتهم لم تكن جيدة؛ بل لأنّ بشرتهم لم تكن ترضي النعمان أو بنته أو جاريته، كان يرمى بالشاعر خارج القصر، ويأمر جنده أن يركبوه ناقته وهو مكتوف اليدين مقلوب الوجه ليرى الطريق من الخلف.. وفي آخر مكان يمكن أن تُرى فيه الحيرة يفكون وثاقه ويدعونه وحيدا.. كان أصحابه يضعون دراهم في جيب كبير الجند اليمنى وأخرى في جيب الشاعر المنكوب ويوصونه به خيرا… فكّر الشعراء أن يبنوا خانهم بعيدا عن مدينة الحيرة، وخارج أسوارها حتى إذا طرد الشاعر المنكوب شر طردة وجد مكانه حيث يقيم.
مات النعمان وتغيرت العملة وتغيرت اللغة وذهب الشعراء إلى الشام في عهد بني أمية، وإلى بلاطات بغداد في عهد بني العباس، وظلت الأموال تكثر وتكثر، ولكنّ الشعراء كانوا يريدون بيوتات الخان من جنس بيوتات الشعر، حسنة البناء مستوية الهندسة.. كان هارون الرشيد أوّل خليفة في تاريخ الإسلام عرف بخبر هذه الحوزة المالية، التي يراد بها بناء قصر للنزلاء.. وقال له بعض السعاة بعد نكبة البرامكة، إنّ هذه الجماعة تعمل لحساب أعدائهم فأمر بأن يلقى أمين خزنة الشعراء في السجن.. كان أمين الخزنة قد سلم العهدة المالية لشاعر نكرة فلم يجد هارون الرشيد لديه أيّ قطعة ذهبية فاضطرّ لإطلاق سراحه تحت إلحاح زبيدة، وأرسل إليه العيون وأرسل الشعراء الآذان الصاغية على العيون. وقالوا لا تغلب العيون الباغية إلاّ الآذان الشاردة. كان الفراء النّحوي قريبا جدّا من هارون الرشيد، ولم يكن الشعراء يحبون النّحاة فهم شُرط اللغة مثلما كان لأبي موسى الأشعري شرط.. كان الشعراء يرون النحاة بعين لا يريدونها..

في نزل الشعراء امرأة تأتي كلّ يوم تسأل موظف الاستقبال عن اسم فيجيبها بأنّه لم ينزل عليهم مثل هذا الاسم، فتمضي وتعود كل يوم لتسأل ويقال لها الجواب نفسه ولا هي تتعب ولا الموظف يتعب ولا المسؤول عنه يأتي.. إنّه شيطان الشعر.

كان النحاة في مقابل ذلك يشدّدون عليهم ويفضحونهم في كلّ مرّة ويتهمونهم، بأنّهم لا يبالون بالقواعد، لكن في ذلك الوقت أراد الشعراء أن يوسطوهم لدى الرشيد كي يخفف عيونه، كان على الشعراء أن يلتزموا بقواعد النحاة التزاما صارما، وإلا لن يتدخل رئيسهم الفراء لدى هارون الرشيد. وقال شاب من أحفاد الصعاليك الذين كانوا يكرهون فكرة النزل والرفاه ليذهب النحاة إلى الجحيم سأنوّن ما حييت ما لا ينوّن، وسأدخل عاميات الناس في أكثر من بيت.. وصاح: يعيش الزجل ويموت الدجل دجل النحاة. اغتاظ النحاة وتلوا علنا سورة الشعراء وغابوا في القصور يوما أو يومين كانوا كدهر أو دهور وخرجوا إلى الشعراء يطلبون الهدنة، ويسألون الشعراء برأس الخليل أن يخففوا العاصفة. قال الفرّاء لهارون إنّه لا يمكن أن يكون الشعراء وراء دسائس البرامكة وأنّهم يحتاجون أن يبتنوا خانا كبيرا.. أقطعهم هارون الرشيد أرضا وأوصاهم بألاّ يبيعوا فيه خمرا.. كان المؤرّخون يتعاطفون مع النّحاة فسكتوا عن هذه الأرض وإقطاعها وصمتوا عن كثير من التفاصيل وتركوا للإخباريّين النسيج فنسجوا فنونا من الأخبار غير خبر الخان. وسوس النّحاة – وقد حسدوا الشعراء على الإقطاع- للإخباريّين بأن يروجوا أنّ الشعراء أهل مقاربة لا أهل شروع. الفرق بين المقاربة والشروع أنّ المقاربة تعليق للأعمال تهمّ بأن تقع، فلا تقع وتكون على شفا أن تحدث فلا تحدث؛ أمّا الشروع فيجعل الحدث في أوّله والحال أنّ الأفعال هي في الأصل وقوع بلا تعليق وإتمام بلا شروع. علّم النحاة العامة أفعال الشروع وتعلمها العامة فكانوا إذا رأوا شاعرا يمشي بين الناس يقولون كاد يسقط أو كرب يضحك أو عساه يتوب.. وحين يفرّ الشاعر منهم فيغيّر المسار، يجد من يقول له: لمَ لم تأخذوا في القول ولمَ تشرعوا في بناء الخان؟ كره الشعراء أفعال المقاربة ولولا ورودها في كتاب الله لأنكروها ولأسقطوها من أشعارهم. اجتمع الشعراء مع كبيرهم وبحثوا في وجوه القوة في أفعال المقاربة فلم يجدوا شيئا قويّا فهي تدخل على الأفعال الواقعة فتعطّلها: تكون الجملة من نوع (الشاعر يقول درا) فتضفي على الشاعر صورة مميزة يعشقها من يرى في الشعر كونا من صناعة الفنون؛ فإذا دخلت كاد بلبلت هذا النسيج وجعلته يفشل في أن يكون: تجعل صورة الشاعر البهيّة مقدرا لها أن تقع ولا تقع فعلا.. قال الشعراء لمَ استعملت هذه الأفعال المحبطة ولعنوا أوّل من اخترعها. لكنّ شاعرا صغيرا من أصحاب المتنبي ابتدع حيلة قرر بها أن يسوّد على النحاة أيامهم فقال: إنّ كادَ فعل تامّ وأنّه إن نُفي لعب بالعقول، فحين أقول: لا أكاد أكون غبيا فيعني أنّي لست غبيّا. قال لكبير النحاة: أنت لا تكاد تكون بشرا حتى تكون نحويا.. ضجّ ذهن النحوي وحار جوابا.. وسأل من سأل فقيل له أوقعتم أنفسكم في شر المنازل.
وبعد قرون فتح الشعراء أحفاد الأحفاد نزلهم بأكبر العواصم الموازية كان يشبه ناطحات السحاب الموازية، وكانوا يقولون للزبائن إنّ الغرف محجوزة جميعا لمدة سنة وبخيالهم الشعريّ يفترضون لمن يدفع أكثر غرفة فارغة تطلب بالتمني وبالمقاربة، وتطلب بالاستعارة لمن ركب أهوال الاستعارات.. كانت غرف التمني غالية، ولكن كانت غرف الاستعارات أغلى لأنّ الاستعارة أبعد ذهابا في السماء من التمني وهي ذات أجنحة تخفق.
في نزل الشعراء امرأة تأتي كلّ يوم تسأل موظف الاستقبال عن اسم فيجيبها بأنّه لم ينزل عليهم مثل هذا الاسم، فتمضي وتعود كل يوم لتسأل ويقال لها الجواب نفسه ولا هي تتعب ولا الموظف يتعب ولا المسؤول عنه يأتي.. إنّه شيطان الشعر.. يقال إنّ شيطانا أكبر قتله وهو في طريقه إلى النزل والمرأة تنتظره كي تنبّهه من قتل صار إليه.

٭ أستاذ اللسانيات في الجامعة التونسية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول الكاتب الأديب جمال بركات:

    أحبائي
    قصيدة شعرية لمبدع أو مبدعة وسط طوفان الغث المكتسح للحياة هي من المصابيح المضيئة
    هذه القصائد الشعرية تتناول الشعور الإنساني المتفاعل بكل مفرداته الحياتية بآراء نيرة جريئة
    وهذه القصائد المصابيح نحن بحق بحق بحق في حاجة ماسة اليها في هذا الزمن الملبد بغيوم قميئة
    أحبائي
    دعوة محبة
    ادعو سيادتكم الى حسن الحديث وآدابه….واحترام بعضنا البعض
    ونشر ثقافة الحب والخير والجمال والتسامح والعطاء بيننا في الأرض
    جمال بركات….رئيس مركز ثقافة الألفية الثالثة

    1. يقول سارة مشاري:

      ما أجمل تعبيراتك أستاذنا الأديب الكبير الرمز جمال بركات…ربي يحفضك ويعطيك الصحة والعافية

  2. يقول د نهلة القاسمي:

    نعم أستاذنا الأديب العربي الكبير جمال بركات صاحب المصداقية والشفافية….قلت الحق

إشترك في قائمتنا البريدية