جورج مسّوح، مثقف وكاهن سوري-لبناني، كان جزءا من تراث فكري-ثقافي صنعته كوكبة من رجال الفكر في لبنان وسوريا، من جورج خضر إلى يواكيم مبارك وصولا إلى أنطون مقدسي. كوكبة تبدو اليوم، في غمرة جنون الأصوليات الدينية المسيحية واليهودية والإسلامية، وكأنها ضوء بعيد-قريب، نستعيده كي نجدد ثقتنا بالكلمة التي تقاوم الموت.
وفي حفل ذكرى جورج مسّوح الذي أقامته حركة الشبيبة الأرثوذكسية في جامعة الحكمة في بيروت (17 آذار-مارس المنصرم)، كانت العودة إلى كتابات هذا الصديق الراحل مناسبة لاستعادة المعاني واحتفالا مبكرا بالفصح.
٭٭٭
عدت إلى كتابات جورج مسّوح بحثا عن عبارة، رأيت فيها صورتي مثلما رسمتها وأنا أحاول أن أكتب حكايات الغرباء الذين أخذوني إليهم كي أستأنس بغربتهم في مواجهة وحشية التاريخ ووحشة الإنسان العربي.
هذه الصورة جعلت من غربة يسوع الناصري نصّا لا ينضب، وحكاية تلخّص البعد الروحي للأدب، الذي يجعل من الدنيوي مساحة يتجلّى فيها الروحي.
في كتابه «الآن وهنا» يتوقف جورج مسّوح عند يسوع الناصري بصفته غريبا، مستلهما الترنيمة الكنسية التي تُؤدّى في طقس الجمعة العظيمة: «أعطني هذا الغريب».
فالناصري الذي «تغرّب منذ طفولته كغريب»، كان كصديقي جورج مسّوح غريبا وعابرا، غُربته كانت عبورا إلى الآخرين. «فكل غريب للغريب نسيبُ»، كما علّمنا شاعرنا الأول امرؤ القيس.
بحثت عن هذه العبارة التي تلخّص حياة هذا الرجل الذي نلتقيه اليوم، من أجل أن نستعيد شهادة الحب والألم التي كتبها بجسده وروحه وهو يخوض غمار رسالته ككاهن ومثقف ومجاهد من أجل الدفاع عن الغرباء، الذين هم مرايا أرواحنا.
جورج مسّوح هو أحد أغصان الشجرة التي زرعها جورج خضر في كلماته الرؤيوية، كلمات غرست في قلوبنا محبة الحقيقة، جاعلة من لغة العرب حقلا تتلاقح فيه الأرواح بحثا عن قبس الكلمات.
عندما رثى محمود درويش صديقه ادوارد سعيد، قرأنا وصية المفكر للشاعر «إذا متُّ قبلك أوصيك بالمستحيل»، هذا المستحيل الذي هو طموح كل أدب، تجسّد في الغريب الذي «ليس له أين يسند رأسه».
قلت لجورج مسّوح إن ترتيلة الغريب واحدة من أجمل القصائد التي قرأتها، لأنها جعلت من المستحيل كلمة، سألته عن اسم كاتب هذه القصيدة، لأكتشف في الجواب علاقة الروحانية بالبُعد عن السلطة.
كتب لي جورج مسّوح: «هذا النص هو من تأليف جرمانوس، رئيس أساقفة باطرا الجديدة، ويُعد الكاتب من كبار مرنمي الكنيسة، ما بين نهاية القرن السابع عشر وبداية الثامن عشر، أي بعد سقوط القسطنطينية. شكرا لسؤالك لأنه جعلني اكتشف أن هذا النوع من الروحانية يرتبط بفقدان الملكوت الأرضي».
لم يكن هذا السوري-اللبناني أسير هويته المزدوجة على الرغم من أن هاتين الهويتين اختزنتا كل آلام العرب، بل كان إنسانا، أي ابنا لأديم هذه الأرض التي لا يحدها سوى الوجع. وهو، كمعلمنا جورج خضر، جعل من العروبة انتماء إنسانيا، ومن التنوع الثقافي ينبوعا لاكتشاف الذات في تعاليها عن الانتماءات الضيّقة، ومن العلمانية والمساواة والعدالة الاجتماعية أفقا للتحرر.
في عمله كأستاذ وكاتب وكاهن، كان هذا الرجل إنسانا أولا، فالغريب الذي اتخذه نموذجا لحياته كان يعرّف نفسه بصفته ابنا للإنسان.
قرأنا مسوح واعظا ومفكرا لاهوتيا ومحاورا للإسلام، وعن هذه الجوانب لن أتكلم اليوم. فهناك من هم أكثر مني معرفة بتجربته الروحية، لكنني أريد فقط أن أقدّم شهادتي عن رجل لم أره يوما إلا على صورة الغريب العابر.
الغريب هو الإنسان، كلنا غرباء ومنفيون بطريقة ما، حتى من احترف اضطهاد الغرباء وحوّل كلمة غريب وغرباء إلى دعوة للقتل أو الطرد ليس في النهاية سوى غريب مثلهم، وسوف يعلّمه الزمن المنقلب دروس غربته.
كلمة «العابر» هي السؤال.
يجب أن أعترف بداية أنني استخدمت فعل الماضي الناقص بشكل غير ملائم هنا، فالموت لا يجعل من الإنسان ماضيا، الموت مجرد استعارة لوصف الغياب الجسدي.
أما كلمة «عابر» فتحتمل معنيين:
المعنى الأول هو المؤقت الذي لا يترك أثرا: الاحتلال أو أنظمة القمع أو المستبد الذي يعتقد أنه تجسيد للأبدية، كلها مسائل مؤقتة، ليس فقط لأنها لا تدوم، بل أيضا لأننا نسعى إلى التحرر منها ومن ذاكرة الألم التي تأتي به.
المعنى الثاني هو العبور، إنه الفصح الذي كان، منذ أساطيرنا الكنعانية القديمة وصولا إلى المعتقدات المسيحية، عبورا من الموت إلى الحياة. العبور كان جسر خليل حاوي إلى الشرق الجديد، جعل الشاعر من ضلوعه جسرا، مثلما جعل الناصري من موته سلما. هذا العبور، رغم دلالاته الروحية والدنيوية التي تتلاقى وتفترق، هو المعنى الأخير الذي يصنعه الموت كي يتحوّل إلى إحدى استعارات الحياة.
في هذا المعنى الثاني للعبور التقيت بجورج مسّوح.
موت الفلسطينيات والفلسطينيين أمام جدار غزة، وموت السوريات والسوريين في السجون والقصف والمنافي، والموت اليمني. هذا الموت هو عبور وصرخة حياة.
الموت الذي صنعه الطغاة لن يوقف مسيرة الحلم بالحرية، فمن قلب اليأس جاءت الثورتان في السودان والجزائر كي تعلنا أن المنطقة لا تزال في بداية مسار ثوري طويل.
حتى عندما يقوم المحتلون والطغاة بالقتل، فإن الحلم يعبر إلى حيث يشاء.
الغريب لا يتغرّب إلا ليكون عابرا.
هذا ما قاله لنا جورج مسّوح في كلماته وحياته.
في العلاقة بين الكلمة والحياة تصير الكلمة حياة، هنا يكمن سرّ هذا الرجل الذي نلتقي به من خلال كلماته والنموذج الحي الذي صنعه في مختلف أوجه حياته.
ألتقيه اليوم كأنني التقيته بالأمس، فالأمس واليوم وغدا، نحن لسنا سوى شهود، والشاهد كما يعلمنا لسان العرب، شهيد.
أتيتُ كي أشهد لجورج مسّوح فأكتشف أن هذا الإنسان يشهد لنا، لأنه عجن حياته بالألم والحلم، وكانت شهادته دعوة للعبور من عتمة العرب إلى ضوء الحرية المشتهاة.
كتبتم و ستكتب باسم سلطة النص المؤسس انه علينا أن نعبد الاوثان بدلا عن هدمها. نص أقصى أفقه ما كتبه الراحل البروتستاني التاويلي “بول ريكور ” باسم استعادة المعنى الذي لم يعد ممكنا. .ما دامت “الإنسانية ” المرغوبة قد مولت مشاهدة أكل الإنسان لقلب الإنسان في كمال مجتمع الفرجة المعولم /دمتم كتبة الحقيقة-مع بعض شعرية -خلفاء شرعيين لكتابة السلطان /مع ختم إعادة إنتاج السلطة ؟!
تحية للمثقفين المسيحيين العرب, وتحية لولائهم المخلص لأوطانهم, وتحية لتمسكهم بلغتهم وقضايا أمتهم العربية. ولا حول ولا قوة الا بالله
رحم الله أبونا جورج مسّوح.
كان الأب مسّوح من القلائل الذين أيّدوا الثورة السورية و عارضوا النظام الذي يحتل سوريا. و كان من القلائل الذين عارضوا «بدعة حماية الأقليات» التي تشدّق بها النظام العلوي و مؤيديه المسيحيين في لبنان بدءاً من بشارة الراعي و جرّ. فالأب مسّوح كان يعتبر أن المسيحيين في سوريا يعيشون جيران و أهل مع المسلمين، و أنهم لا يحتاجون لأي حماية إلا من بطش هذا النظام.
كان «الغريب العابر» ملتزماً بما نادى به السيد المسيح في قوله؛ {لأَنَّهُ مَسَحَنِي لأُبَشِّرَ الْفُقَرَاءَ، أَرْسَلَنِي لأُنَادِيَ لِلْمَأْسُورِينَ بِالإِطْلاقِ وَ لِلْعُمْيَانِ بِالْبَصَرِ، وَ لأُطْلِقَ الْمَسْحُوقِينَ أَحْرَاراً”}.
رحمه الله رحمة واسعة.
لقد حول زعماء العرب الأشاوس شعوبهم إلى غرباء في أوطانهم وفي بلاد اللجوء. عتمة العرب التي صنعها أصحاب البساطيل لا يفهمون لغة مشوح لأنهم تسعين بالمئة منهم يحملون شهادة ثانوية تشحيط أو ثانوية ناقص ستة فكيف لهم أن يفهموا لغة الحرية ولغة الكرامة ولغة الوجع العربي..