مصر: دستور ينادي على انقلاب

المبرر الأصلي لإعادة تعديل بعض مواد دستور النظام الانقلابي، هو دائما لحماية نفسه من أسباب ودوافع الانقلاب، الذي يمكن أن تفكر فيها جهات مدنية وسياسية وحتى عسكرية في مصر. فالنظام القائم منذ انقلابه على الشرعية الدستورية، وعلى أول تجربة ديمقراطية في حياة مصر والمصريين، وهو يحتاط ويحوّط نفسه بترسانة من القوانين والأسلحة لحماية نفسه من مصيره المحتوم وهو الانقلاب. فالنظام الانقلابي يستدعي نظاما مثله حتما. ولتجنب هذه الحتمية السياسية والتاريخية لا تكف طغمة «الرّيس السيسي» من دعم نفسه ليس بتعديلات متلاحقة من القوانين فحسب، بل أيضا ضرورة دمغها باستفتاء شعبي تعفيه من تبعات سياسته.
كافة المواد التي طالها التعديل وما أضيف إلى دستور 2014، والتي وافقت عليها الهيئة التشريعية، ومررت على أفراد الشعب للاستفتاء، كلها يتعلق بالنظام الحاكم، وكيف يصون نفسه من هشاشة السلطة التي لا تني تترهل مع الوقت، لأن طبيعة النظام الانقلابي تأبى التجاوب ومسايرة الوضع الديمقراطي العادي، كما هي جميع الدول التي تبنت الحكم الديمقراطي، كآلية لتجديد وتنمية الدولة والمجتمع معاً. ما يكشف بشكل واضح وجلي الطابع العسكري للنظام الحاكم، واستمراره إلى ما بعد عام 2019 هو المادة 200، التي تكثف كل الصلاحيات في يد الجيش، وجاء فيها «القوات المسلحة ملك للشعب، مهمتها حماية البلاد والحفاظ على أمنها وسلامة أراضيها، وصون الدستور والديمقراطية، والحفاظ على المقوِّمات الأساسية للدولة ومدنيتها ومكتسبات الشعب وحقوق وحرّيات الأفراد، والدولة وحدها هي التي تنشئ هذه القوات، ويحظر على أي فرد أو هيئة أو جهة أو جماعة إنشاء تشكيلات أو فِرق أو تنظيمات عسكرية أو شبه عسكرية».
واضح من هذه المادة أن كافة الصلاحيات والإمكانات التي تتوفر عليها الدولة والمجتمع هي بيد العسكر، ومن ثم فالصياغة يغلب عليها الخطاب السياسي للهيئة العسكرية في المناسبات الوطنية، وليس صياغة قانونية لهيئة رسمية تأخذ بعين الاعتبار، أنها بصدد شخصية اعتبارية منزهة عن الأشخاص الآخرين وعن الأغراض السياسية والمالية. التوكيد على الهيئة العسكرية وصلاحياتها ومهماتها هو ارتداد تاريخي لمصر إلى عهود بدايات تأسيس الدول الحديثة، بعد خروج الاستعمار الأوروبي من الديار العربية. في الأزمنة الراهنة التي يجري فيها الحديث عن النظام الديمقراطي في أرقى أشكاله، كالديمقراطية التداولية والتساهمية والمباشرة، يشدد الدستور الجديد على الحكم العسكري، ويؤكد على أنه هو الذي يحافظ على مدنية الدولة. مفارقة عجيبة وتناقض صارخ، في الوقت الذي انتهى العديد من دول العالم الذي كان يحسب على العالم الثالث، إلى الخروج من الطابع العسكري لنظام الحكم، ليفسح المجال للدولة المدنية بما في ذلك وزير الدفاع، إلا أن «الفريق» السيسي وسدنته من الانقلابيين، يجد الأريحية الكاملة ويسمح لنفسه بأن «يحافظ على مدنية الدولة»، ما يعني في نهاية التحليل أن الجيش ليس مصدر السلطة فحسب، بل هو مصيرها أيضا، خاصة عندما يكلف نفسه أن يبقى سيد البلد إلى عُهْدَات رئاسية مقبلة.
عندما يؤكد دستور العسكر مع التشديد، على أنه الجهة التي تحافظ على مدنية الدولة، فهو يدخل في حالة من العبث السياسي الذي يلازمه منذ انقلابه على الدولة المدنية الديمقراطية التي انتخب عليها الشعب المصري عام 2012. وأبرز مظاهر العبث هو التنصيص على حظر ومنع إنشاء تنظيمات وتشكيلات وفرق عسكرية أو شبه عسكرية. ففي حالات عادية لصياغة أو تعديل دساتير، لا يمكن إطلاقا أن يشار إلى هذه التنظيمات والهيئات، لأن المجال العسكري والأمني يخضع حصرا للدولة ولا من ينافسها أو يزاحمها فيه. فقط الذهنية العسكرية التي اغتصبت السلطة من الشعب، هي التي تخشى على نفسها من إمكانية وجود تنظيمات تحاول أن تستعيد شرعيتها من الطُّغمة الانقلابية. وهذا ما يدفع إلى قراءة أن ما ورد في بنود دستور العسكر هو ترسانة وعُدَّة قانونية من المنظومة الحربية والأمنية لحماية الحكم السلطوي، والإبقاء على الوضع كما هو كتبرير متواصل لبقاء النظام ذاته.
وغني عن البيان، وعن ما تقدم، أن معاني الدستور الجديد واضحة ولا يكتنفها الغموض في التأويل والتفسير، إلا لدى ألوية الجيش، في موضوع صلاحية النظام ما إذا كانت مطلقة أو غير مطلقة، أي أن الموضوع بين عناصر النظام نفسه في كيفية كفاية أو عدم كفاية إجراءات حماية نفسه من الانقلاب، وهذا هو هاجسه الأعظم طوال حكمه اللاحق، ما يعني في التحليل الأخير أن الطغمة الانقلابية لا تعبأ إطلاقا بالمصريين وأنها فكت الارتباط به إلا في ما يحقق مصلحة الجيش المالية والسياسية، باعتبار «الشعب» فرصة لسوق تجارية وعمولة مالية لا غير. ومن هنا، ضرورة قراءة الوثيقة السياسية الجديدة على أنها تجديد العهد على مواصلة الجيش في الحكم، الذي يحتاج بعد الاستفتاء وخطف واغتصاب «التوثيق الشعبي» عليها إلى ترسيم حالة طوارئ كأفضل إطار للحكم العسكري، وهكذا، فتعديل الدستور ودعمه بمواد جديدة يندرج حصرا في إنقاذ النظام الانقلابي من التهديد الداخلي، لأن التهديد الخارجي لم يعد له محل من الاعتبار، بعد ما صارت إسرائيل شريكا في محاربة الجماعات الجهادية المسلحة. والتهديد الخارجي لم يرد صراحة في المادة 200 السالفة الذكر، بل فقط إشارات إلى البؤر والمواطن والمواضع التي من شأن النظام الانقلابي أن يتسبب في إنشائها حتما. هذا ما تشيء به نصوص الوثيقة السياسية الجديدة التي تقدم بها النظام الانقلابي واستفتاها «الشعب الغلبان» أو المغلوب على أمره، لأن أي انقلاب على الدولة القائمة هو هزيمة للشعب وليس انتصارا للحكم الجديد، بل هي مراسيم جنائزية إلى مثواه الأخير، مظاهر التشييع قد تطول لسنوات، وكلمّا طال الزمن كان السقوط أفدح وأعظم.

تعديل الدستور المصري ودعمه بمواد جديدة يندرج حصرا في إنقاذ النظام الانقلابي من التهديد الداخلي

ولتحاشي الخطر الداهم على مصر والمصريين عليهم أن يسارعوا إلى بحث أفضل سبيل إلى الانقلاب على النظام الانقلابي ذاته، ولعّل أنجع طريق هو الطريق السلمي والمقاومة السلبية، التي لا تلحق الضرر بالمؤسسات وتزيل الأشخاص الذين قادوا الانقلاب وساعدوه لسنوات لحد الآن. مسألة إنقاذ مصر مهمة المصريين، لأنهم مصدر السلطة في تعبيراتها الأخيرة ومرجعيتها القصوى، والنظام الانقلابي لا يمثل أي مؤسسة من مؤسسات الدولة، ولا يمكنه إطلاقا أن يسعف نفسه بالإصلاحات التي تنجيه من المأزق الذي آل إليه، بعد سرقة السلطة والابتعاد بها عن المصريين، وتسخير كافة الإمكانات والتدابير للاحتفاظ بها، من بينها تعديل الدستور بشكل متتال إلى أن يصل النظام إلى لحظة غير قابلة لأي ترقيع، بل إلى السقوط على ما يحدث في الجزائر والسودان في اللحظة الراهنة.
كاتب وأكاديمي جزائري

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية