المرح الذي رافق «دلو الثلج» العالمي، مرح الماء، ونشوة العطاء، وسعادة الجسد الحرّ والشهقات غير الخجولة أمام الملايين، سرعان ما تحوّل إلى طعم مرّ في الحلق حين وصل إلى بلادنا.
حين وصل «الدلو» إلى السوريين كان ما زال يحتفظ بشيء من المرح، رغم أن المأساة لا تنقصهم. «دلو الماء» السوري وُظّف في حملات للتبرع من أجل التعليم، النتيجة كانت رائعة، حيث دفعت رجال أعمال وفنانين وناشطين وسواهم للوقوف تحت الدلو والتبرع. لكن «الدلو السوري» لم يفكّر بمعادل محليّ للدلو العالمي، الذي ابتُكر من أجل أن يجرّب المرء شعوراً ضئيلاً مما يشعر به مرضى «التصلب الجانبي اللويحي».
عند غزة بدأ «الدلو» منعطفاً صعباً. الغزيون «قلبوها جدّ». كانت البداية مع دلو فارغ تماماً، حيث ليس لدى الغزيين كهرباء ولا ماء. هكذا فطن الغزيون إلى ضرورة ابتكار معادل يحكي شعورهم هم، لا شعور مرضى التصلب، وبالطبع كان أقسى ما يشعرون به هو الانهيارات التي يحدثها القصف الاسرائيلي فوق رؤوسهم. هنا جاء «دلو الرمل والركام». دلق أهل غزة ركام الدمار فوق رؤوسهم، من دون أن يطالبوا أحداً بالتبرع، تحدوا العالم أن يجرّب هذا الشعور. ويبدو أن حكاية الدلو مستمرة، إذ يتدحرج الدلو من مطرح لآخر، ككرة الثلج، أو كركام بيت هدم للتوّ. لا شيء يضاهي ذلك مأساوية، هو شيء يذكر بما تفعله نساؤنا في الجنائز حين تعفّرن رؤوسهن بالتراب.
هل تنتهي الحكاية هنا، في بلاد تقصف فيها أبراج سكنية، ويقصف الآمنون بالسلاح الكيماوي من غير حساب، وتصيب صواريخ السكود والبراميل المتفجرة الأحياء الآمنة، ويلطخ الدم وجوه الجميع؟ يبدو أن لا سبيل إلى المرح في هذه البلاد.
مسعود وساحرات المعارضة السورية
لا ندري ما حاجة الممثل السوري العالمي غسان مسعود للمواربة في موقفه مما يجري في بلاده، كما فعل وهو يستعيد حديثاً جرى أخيراً بينه وبين المخرج الهوليودي ريدلي سكوت، أثناء تصوير فيلمه الجديد «سفر الخروج: آلهة وملوك». لقد سأله الأخير ماذا يجري في بلاده، فصمت، وأعاد السؤال إليه، ليحسم سكوت بالقول «إنها حرب الطاقة»، وهنا يمسك مسعود عن الكلام وكأن هذا هو الجواب النهائي والحاسم.
مسعود أعلن موقفه إلى جانب النظام بشكل مبكر، صراحة في مقابلات وبيانات، وضمناً عبر أعمال فنية، كما في مسرحية «عرش الدم» التي أعدها بنفسه وأخرجه عن التراجيديا الشكسبيرية الشهيرة «ماكبث». في تلك المسرحية أقدم مسعود على ليّ عنق النص الشكسبيري، حين جعل ساحرات ماكبث اللواتي لا يظهرن في النص الشكسبيري سوى في مشاهد قليلة، جعلهن الأكثر حضوراً، وبدلاً من تقديم ماكبث، القاتل الرهيب الذي يقتل ويقتل حتى يفيض الدم على المكان، أراد مسعود أن يقدم الساحرات كمحرضات على القتل، ولم يخف أنه يقصد بهن المعارضة السورية.
سألت مسعود حينذاك في حديث صحافي (كان ذلك في آذار/مارس العام 2012)، إن كان يقصد المعارضة السورية بالساحرات فأجاب: «قل ما تشاء، أنا لم أقل ذلك». وهو أراد أن يؤكد الأمر لولا أنه لا يريد أن يقول كلاماً سياسياً مباشراً، ولو كان التأويل خاطئاً لاكتفى بالنفي.
حينذاك كان مسعود يعتبر أن ما يحدث في بلاده مجرد صراع على السلطة، ها هو الآن يضيف أنه «صراع على الطاقة»، هذه المقولة التقليدية الجاهزة والسهلة لتفسير الصراع. مسعود يعرف جيداً لماذا ثار الناس في درعا، وإن كان لدى هؤلاء البسطاء أي طمع بالسلطة أو الطاقة، لكنه آثر أن يبرئ ماكبث ويدين الضعفاء. ماكبث نفسه، أفظع نموذج للقتلة، لم يستطع أن يهرب من صحوة ضميره، الذي ظل يلاحقه ويصرخ به أنه قاتل. متى يصحو ضميرنا؟
في ضيافة بوتفليقة
الفنان السوري مصطفى الخاني، الذي يمكن اعتباره من الآن «صهر النظام»، بعد إعلان خطبته من كريمة بشار الجعفري، ممثل النظام السوري في مقر الأمم المتحدة بنيويورك، لا يتردد في إرسال أخباره، بل تفاصيل أخباره عبر ما يسميه مكتبه الصحافي. آخر الأخبار حضوره لـ «مهرجان جميلة العربي»، برعاية الرئيس الجزائري عبدالعزيز بوتفليقة، إلى جانب ضيوف شرف آخرين من بينهم المخرج التلفزيوني والسينمائي باسل الخطيب والمخرج المسرحي العراقي جواد الأسدي والشاعر المغربي محمد رباوي والشاعر العراقي عباس جيجيان. الخبر هذه المرة ليس حضور الفنان للمهرجان، بل افتخاره بذلك، وتوزيعه لصوره في المهرجان البوتفليقي هنا وهناك. لكن ذلك ليس غريباً بالطبع، فمن يفاخر بمساندته النظام السوري (ذات مرة كانت صورة بشار الجعفري هي صورة البروفايل الخاص بصفحته في فيسبوك)، ليس عليه بعد أن يخشى شيئاً آخر.
لافت أيضاً تلك اللمّة لجواد الأسدي والخطيب وجيجان وسواهم في المهرجان، ليس علينا أن نعتب على «مثقفي الأمة» لطالما كانوا مهرجين في القصور، في بلاط صدام حسين والأسد وبوتفليقة وسواهم. «مثقفو الأمة» لا يفكرون بشعوبهم، السفر والمهرجانات والموائد والتقاط الصور هي بذاتها هدف لا يستغنى عنه. أما الضمائر فمؤجلة.
زمن العسكر
شاركت المغنية التونسية لطيفة في حفل نظم من قبل «الشؤون المعنوية» في الجيش المصري في موقع حفر قناة السويس ضمن كوكبة من الفنانين. أطلت الفنانة على جمهور المحتفلين بفستان من قماشة العسكري المموه، ملتحفة بالعلم المصري. فما بال نخبة الفنانين يلتصقون بالعسكر، ويتماهون بثقافتهم؟ ما حكاية اللباس العسكري الدارجة هذه الأيام؟ هل هذه هي الطريقة الوحيدة للتعبير عن حب الأوطان، أم للوقوع في غرام العسكر؟ قبلها كانت مذيعة تلفزيون «الجديد» اللبنانية حين أطلت باللباس العسكري الكامل في نشرة الأخبار، وقبلها مذيعة القذافي التي وضعت مسدسها على الطاولة.
رحم الله أولئك المبدعين من طينة سيد درويش الذين كانوا يعلنون حبهم للوطن عبر انتمائهم للأرض والفلاحين والبسطاء والشيالين، كانت تلك أزمنة أخرى.
كاتب من أسرة «القدس العربي»
راشد عيسى
مقال جميل جدا. كل الشكر لكاتبه