تجربة الأديب الروسي الشهير الكسندر سولجينيتسين (1918 ـ 2008) الحائز جائزة نوبل في الأدب (1970) تتميز بإبداعه المتنوع في مختلف الأنواع الأدبية. فإلى جانب الأعمال الأدبية الكبيرة مثل رواياته «في الدائرة الاولى» و»جناح السرطان» و»أغسطس 1918» وملحمته « الطاحونة الحمراء» والقصة التي جاءته بالشهرة «يوم من حياة إيفان دينيسوفيتش» كان قد كتب القصص القصيرة والمسرحية والشعر والنقد والتاريخ وفي اللغة. وكتب ملحمته « ليالي بروسية» وهو قابع في معسكر الاعتقال، وحفظها غيبا لعدم وجود ورق وقلم لديه، ولم يدونها الإ بعد سنين من إطلاق سراحه.
وتحتل المقطوعات النثرية القصيرة جدا، التي ينسبها بعض النقاد في روسيا وخارجها إلى قصيدة النثر، مكانة خاصة في مجمل عالمه الأدبي وتؤلف، وفق إجماع المختصين بأدبه، ظاهرة مميزة وفريده من نوعها. وواصل سولجينيتسين في تلك المقطوعات النثرية الصغيرة، التقاليد الروسية العريقة في مجال النثر الشعري المركز في مقاطع صغيرة الحجم، التي تلبي قواعد قصيدة النثر التي ابتكرها الشاعر الفرنسي شارل بودلير، التي من بينها الإيجاز والتوتر والموسيقى الداخلية… لكنها تبقى ثرية المضمون وتطمح إلى اختزال رؤية واسعة في مقطوعة صغيرة. وتلوح في مقطوعات/ قصائد سولجينيتسين النثرية مؤثرات أدباء روسيا، الذين خاضوا التجربة، فصاحب «الحرب والسلام» ليف تولستوي كتب حكايات وأساطير صغيرة جدا ذات نبرة شعرية، وكتب إيفان تورجينيف قصائد النثر «الشعر الأبيض» المشهورة التي مازالت تحتفظ بحيويتها البلاغية والمضمون المتسربل بالجمال الذي سعت إلى بلوغه، وكتب إيفان بونين مقطوعاته الصغيرة بلغته الشعرية الشفافة. وتتسم مقطوعات سولجينيتسين النثرية الصغيرة، بدقة التعبير عن الفكرة وحذاقة العرض، وتتنوع مضامين تلك القصائد التي تكتسي أشكالا أدبية ذات نكهة حداثية. ولا يتعدى حجم البعض منها نصف صفحة.
ويرسم سولجينيتسين في مقطوعاته تلك ما يعجز عن تحقيقه أسلوب النثر السردي التقليدي، ولا القصيدة المقيدة بشروط الوزن والقافية. وتعبر قصائده تلك عن تجارب جمالية/ فكرية ذاتية محضة، من خلال تأمل ظواهر الطبيعة والفعل البشري. إنها معالجة لهموم الذات وهي في حالة الدهشة. إنها قصائد عن حرية الروح وسر الحياة والجمال المفقود، وتتشح بإحساس حزن شفيف، حزن الحياة وفرحها ومرارة الاكتشاف أو الفرح به.
ننتخب من تلك المقطوعات الصغيرة لسولجينيتسين النثرية ثلاثة نماذج لتعطي فكرة عنه كواحد من شعراء قصيدة النثر الروسية أيضا:
يرسم سولجينيتسين في مقطوعاته تلك ما يعجز عن تحقيقه أسلوب النثر السردي التقليدي، ولا القصيدة المقيدة بشروط الوزن والقافية.
1 ـ الموقد والنار
رميتُ غصن شجرة في الموقد، ولم أنتبه إلى أن حشدا من النمل كان يسكن في داخله. فراح الغصن يطقطق، وخرجت منه جموع نمل هاربة، ساعية بفزع إلى الأعلى، وهي تتضور، وتحترق في اللهيب. التقطتُ الجذع بكماشة ودحرجته جانبا. فخلص الكثير منها من الهلاك، ودبت النمل على الرمل، وراحت تتسلق على أشواك الصنوبر.
ولكن، ويا للغرابة أنها لم تنأى بنفسها بعيدا عن الموقد، وما كادت تتغلب على الفزع الذي انتابها، حتى استدارت وأخذت تدور، وكأن قوة مجهولة جذبتها للخلف، نحو وطنها الذي هربت منه. والكثير منها راح يسعى نحو الجذع الملتهب، في حركة سريعة، وهلك هناك.
2 ـ رفات الشاعر
أطلت قرية ليجوفو، التي كانت في الماضي البعيد مدينة أولجوف، على منحدر نحو نهر»أوكا»: ففي تلك العصور القديمة، بعد ماء الشرب والماء الجاري جذب الروس الجمال. وشيد أينجفا أيجورفيتش، الذي تخلص بإعجوبة من خناجر إخوته، وإنقاذا لروحه، شيد هناك ديراوسبينسكي. ومن قطعة أرض تغمرها مياه الفيضانات إلى أخرى، تراءى في يوم صافي الجو وبعيدا عن هنا، على بعد خمسة وثلاثين فيرستا على مثل هذا المنحدر ـ دير أيفان بوجوسلاف بنواقيسه.
ورحمهما «باتي»»1» المسكون بوسواسه.
رأى ياكوف بتروفيتش بولونسكي»2» أن هذا مكانه الوحيد، وأوصى أن يُدفن هناك. كلنا نتخيل أن روحنا تُحَلق على القبر، وننظر في جميع الأنحاء. ولكن الآن لا توجد هنا قبب، ولا كنائس، ولم يبق من الجدار الحجري الا نصفه، مبني من ألواح خشبية ذات أسلاك شائكة، وتقف على كل هذه المعالم التاريخية ـ أبراج حراسة، كفزاعة كريهة، معروفة، أنها معروفة إلى درجة… وعند أبواب الدير ثمة نوبة حراسة، وجدارية كُتب عليها: «عاش السلام بين الشعوب» والعمال الروس يحملون فتاة إفريقية صغيرة.
نحن ـ لا تنم هيئتنا على أننا نفهم شيئا. راح حارس السجن المناوب، بين أكواخ الحماية، الرثة، يشرح لنا وهو في قميص داخلي: كان الدير هنا الثاني في العالم، وأعتقد أن الأول كان في روما، وفي موسكو ـ الثالث. وحينما كانت إصلاحية الأطفال هنا، وكما تعرفون الأولاد لا يفقهون شيئا، دنسوا الجدران، وكسروا الأيقونات. ومن ثم اشترت التعاونية الزراعية الكنيستين بأربعين ألف روبل ـ من أجل الأحجار، أرادت أن تبني منها زريبة بقر من ستة خطوط، والتحقتُ أنا أيضا بالعمل: دفعوا خمسين كوبيكا عن كل حجر، وعشرين عن نصف الحجر. ليس من السهل الفصل بين الحجر الذي اندمج بالإسمنت. انفتح لنا ضريح تحت الكنيسة كان رئيس الأساقفة راقدا، عبارة عن ـ جمجمة، كان رداؤه سالما، ورحت مع شخص آخر نمزق ذلك الرداء، بيد أننا لم نستطع تمزيقه.
ـ ولكن أخبرني: وفقا للخريطة يوجد هنا قبر بولونسكي، الشاعر، فأين موقعه؟
ـ يمنع الوصول إلى بولونسكي، إنه في باحة السجن، وما الذي ستراه؟ التمثال في حالة يرثى لها. ولكن تمهل.
استدار الحارس نحو زوجته:
ـ اعتقد أنهم حفروا قبر بولونسكي؟
وردت زوجته التي كانت تقف عند سقيفة البيت وهي تلتقط بذورا.
ـ اووه، نقلوه إلى إقليم ريزان.
وقال الحارس وقد لاح له أن الأمر مضحك:
ـ اذن أطلق سراحه..
1 ـ باتي(1208ـ1255) قائد منغولي حفيد جينكيزخان اشتهر بقسوته.
2 ـ ياكوف بولونسكي (1819ـ1898) شاعر روسي. تحولت قصائده الغنائية إلى أغان شعبية، وكتب أيضا القصص والروايات.
3 ـ جذع شجرة الدردار
قطعنا الحطب بالمنشار، أخذنا جذع شجرة الدردار، وأطلقنا صيحة تعجب: فمنذ أن قطعنا الساق في العام الماضي، وسحبناه بالتراكتور، وقطعناه إلى أجزاء، ورميناه في المراكب والحافلات، وجمعناه في حزمة، ومن ثم ألقينا به على الأرض ـ فإن جذع شجرة الدردار لم يستسلم، وأطلق من نفسه نبتا طريا ـ إنه سيكون شجرة دردار في المستقبل، أو غصنا كثيف الورق.
وضعنا الجذع على آلة القطع، وكأنه على مقصلة، بيد أننا لم نجرؤ على غرس المنشار في الرقبة: فكيف يمكن قطعه بالمنشار؟ إنه يود أن يعيش أيضا، إن رغبته في الحياة ـ تفوق رغبتنا.