في سنة 1961، ضمن واحد من مقالات «بصراحة» التي اعتاد نشرها في «الأهرام» المصرية، روى محمد حسنين هيكل أنّ شكري القوتلي (1891 ــ 1967)، الرئيس السوري يومذاك، وجّه إلى الرئيس المصري جمال عبد الناصر العبارة التالية، تعليقاً على توقيع اتفاقية الوحدة بين البلدين في شباط (فبراير) 1958: «أنت لا تعرف ماذا أخذت ياسيادة الرئيس! أنت أخذت شعباً يعتقد كلّ من فيه أنه سياسي، ويعتقد خمسون فى المائة من ناسه أنهم زعماء، ويعتقد 25 فى المائة منهم أنهم أنبياء، بينما يعتقد عشرة فى المائة على الأقل أنهم آلهة».
للتذكير، بادئ ذي بدء، كتب هيكل مقالته تلك بعد وقوع الانفصال، في أيلول (سبتمبر) 1961، وكان استطراداً يبرئ ساحة عبد الناصر وزعماء مصر الآخرين إزاء صعوبات حكم الشعب السوري؛ إذْ كيف يمكن، حقاً، حكم شعب له هذه المواصفات الخارقة، والخرقاء! العبارة، ثانياً، وعلى جري عادة هيكل في سرد أقاصيص جرت بين أموات ولم يعد يشهد على صدقها سواه، لم تجرِ على لسان القوتلي أغلب الظنّ؛ فلا سند يثبت صحتها أوّلاً، كما أنها لا تشبه شخصية الرجل سلوكاً وخطاباً ثانياً، ولا تقترب البتة من أيّ من آرائه النقدية في أبناء بلده.
الطريف، مع ذلك، أنها عادت إلى أذهان بعض المتابعين الغربيين للملفات السورية المعاصرة، خاصة بعد انطلاقة الانتفاضة الشعبية في آذار (مارس) 2011؛ وباتت أقرب إلى «مسطرة» تُقاس على معطياتها معضلات قراءة المشهد السوري الراهن، سياسة واجتماعاً وعلم نفس وتربية وثقافة ومزاجاً… توماس هيغهامر، الباحث المخضرم في «مؤسسة أبحاث الدفاع» النرويجية، يصف العبارة بأنها «اقتباس خالد»، متناسياً (أم لعلّه لم يدرك البتة) مقدار التنميط السطحي والغبي في تصنيفات كهذه؛ خاصة إذْ تأتي من هذا الرجل تحديداً. نيكولاس فان دام، مؤلف «الصراع على السلطة في سوريا: السياسية والمجتمع تحت حكم الأسد والبعث» ومؤخراً «تدمير أمّة: الحرب الأهلية في سوريا»، يتواضع قليلاً فيرتاب في أنّ العبارة منتحلة، لكنه يحيل المعجبين بها إلى كتّاب سيرة القوتلي!
ثمة نزوع استشراقي مبطّن، يسعى إلى ترسيخ «حقيقة» أخرى نمطية خالدة، حول واحد من أكثر شعوب الشرق الأوسط انغماساً في السياسة؛ شاءت أقداره أن تستبدّ به عائلة طغيان وفساد واستئثار عائلي وطائفي، اشتغلت منهجياً على قتل السياسة في النفوس، طوال نصف قرن تقريباً.
وسوى الطرافة، ثمة نزوع استشراقي مبطّن، أو هو صريح مكشوف لدى الكثيرين في الواقع، يسعى إلى ترسيخ «حقيقة» أخرى نمطية خالدة، حول واحد من أكثر شعوب الشرق الأوسط انغماساً في السياسة؛ شاءت أقداره أن تستبدّ به عائلة طغيان وفساد واستئثار عائلي وطائفي، اشتغلت منهجياً على قتل السياسة في النفوس، طوال نصف قرن تقريباً. وهذه، إذن، خلاصة تبيح القول إنّ حافظ الأسد، وبعده وريثه بشار، ورهط مجرمي الحرب والقتلة واللصوص والأزلام الذين شاركوهما السلطة على نحو أو آخر، بلغوا المرحلة الراهنة من تدمير سوريا لأنّ البلد استعصى قبلهم على القوتلي، ثمّ على عبد الناصر، فكيف لا يستعصي على آل الأسد أيضاً!
ولعلّ هذه مناسبة لاستعادة واحدة من أنصع الصور الفوتوغرافية وأندرها، ليس في تاريخ سوريا الحديث وحده، بل في تاريخ العرب أيضاً كما أجيز لنفسي القول. الصورة تعود إلى عام 1955، وتحديداً يوم 6 أيلول (سبتمبر)، وتُظهر رجلين يتبادلان التوقيع على وثيقة من نسختين: الأوّل هو هاشم الأتاسي (1875 ــ 1960) رئيس الجمهورية آنذاك، والثاني هو القوتلي رئيس الجمهورية المنتخب، وأمّا الورقة التي تبادلا التوقيع عليها فهي وثيقة انتقال السلطات الدستورية. ألا يصحّ الافتراض بأنّ هذه الممارسة، الديمقراطية والحضارية والراقية، باتت اليوم غريبة على أبصار العرب وأسماعهم في مشارق أرضهم ومغاربها؛ وافتقدتها ــ إذْ لم يحدث أنها تكرّرت مراراً في حياة ــ الأجيال العربية بعد ذلك التاريخ؛ حين استولى أصحاب العروش والتيجان والقبعات العسكرية على مقاليد الأمور، وتراجعت السياسة إلى الباحة الخلفية، أو قبعت في الزنازين، أو تلقفتها المنافي هنا وهناك؟
للصورة فتنة أخرى زاهية الألوان غير جمالياتها بالأبيض والأسود، يصنعها نصّ تلك الوثيقة التي جاء في سطورها: «جرى انتقال السلطات التي خوّلها الدستور لحضرة صاحب الفخامة رئيس الجمهورية السيد هاشم الأتاسي إلى حضرة صاحب الفخامة السيد شكري القوتلي الذي انتخبه مجلس النوّاب رئيساً للجمهورية (…)، وقد شهد ذلك صاحب الدولة الدكتور ناظم القدسي رئيس مجلس النواب والأستاذ صبري العسلي رئيس مجلس الوزراء والسيد وجيه الأسطواني رئيس المحكمة العليا…». وبالطبع، لا يفوتكم ملاحظة ترتيب السلطات الثلاث الشاهدة على التوقيع: التشريعية، والتنفيذية، والقضائية!
وللتذكير بسجايا الرجل الذي اختزل قامته أمثال هيكل ونفر المستشرقين الهواة، يُشار إلى قول آخر مأثور أطلقه في وجه ونستون تشرشل حين اجتمع به في السعودية، فخاطبه بعد أن التفت إلى البحر القريب: «شعبنا لن يكبّل وطنه بقيد العبودية والذلّ والاستعمار حتي لو أصبحت مياه هذا البحر الزرقاء حمراء قانية». هذا إلى جانب أنه تخلى طواعية عن منصبه كرئيس للجمهورية السورية، منتخب ديمقراطياً ومحبوب من شعبه وصاحب حظوة واحترام في العالم، مقابل تحقيق الوحدة السورية ــ المصرية.
لكنّ أطرف ما في حكاية هيكل أنّ عبد الناصر، الألمعي اللماح، لم يتملكه الفضول فيسأل عن الفئة التي يضع القوتلي نفسه فيها: الزعماء أم الأنبياء أم الآلهة!
تلك الوحدة المشؤومة ، اغتالت المشروع الديمقراطي الاجتماعي السوري على أيدي عبد الناصر ، و القوتلي ، و كل من ساهم بها ..!
الوحدة مع مصر هي النكبة السورية فقد دمرت الديمقراطية و الثقافة السورية و منذ ذلك الحين بدأ انحطاط الدولة السورية