الدولة العربية ـ الإسلامية: دولة حديثة بتوازن قوي زائف
د. بشير موسي نافعالدولة العربية ـ الإسلامية: دولة حديثة بتوازن قوي زائف كما الكثير من انظمة السياسة والاجتماع والقانون، تعتبر الدولة الحديثة نتاجاً أوروبياً غربياً بامتياز. بدأت الملامح الأولي لهذه الدولة في التشكل منذ منتصف القرن السابع عشر، وبالتحديد بعد سلم وستفاليا الذي وضع نهاية لحرب أوروبية داخلية طويلة ادت إلي إبادة أكثر من ثلث سكان القارة. في وستفاليا، أقر الأوروبيون فكرة الحدود والاستقلال، وبدأوا مسيرة الخروج الطويلة من الأنظمة الإمبراطورية المقدسة. ولكن الدولة احتاجت زهاء قرن ونصف قرن آخر لتكتسب سماتها الحديثة، حيث التماهي بين الشعب والدولة، وحيث السيادة الكاملة علي الأرض والشعب، وحيث مؤسسات التحكم والرقابة، وحيث الدولة ذاتها مصدر شرعية الحق والقانون، وحيث تجسد الدولة الجامع القومي للأمة.ولا تنتمي الدولة الحديثة إلي أصول أوروبية غربية وحسب، بل ان الدول الأوروبية الغربية المعاصرة تعتبر النموذج الأمثل للاستقرار والكفاءة. بل وينسحب هذا الاستقرار المثالي علي عدد آخر من دول القارة الأوروبية. ولم يعد من المستغرب، خاصة في الخطاب العربي، ان تعتبر الدول العربية أو الإسلامية دولاً غير مكتملة النمو، غير ناضجة، تفتقر إلي تماهي الشعب بالدولة، أو بتعبير آخر الولاء لهذه الدولة. والمقارنة المستبطنة هنا بين مكتملة النمو و غير مكتملة النمو هي مقارنة مع الدولة الأوروبية، مع دول مثل بريطانيا، وفرنسا، وهولندا، وشقيقاتها. في عدد كبير من المجتمعات العربية والإسلامية، وربما في أغلبية هذه الدول، ثمة افتراق أيديولوجي وسياسي واسع، يجعل من المستحيل قيام نظام تداولي سلمي علي الحكم؛ وثمة توترات، بل وحروب، إثنية ودينية وطائفية وقبلية وجهوية؛ ثمة فقدان ثقة بالدولة وعدم اكتراث بمؤسساتها وقوانينها، بل وبمصيرها ككل؛ وثمة سيطرة وتحكم وسيادة، ولكنها من الصنف المفروض بالعنف والعصا الغليظة. عندما يقارن هذا الواقع للدولة بواقع المثال البريطاني أو الفرنسي أو الألماني، فالنتيجة لا يمكن أن تكون محل جدل أو شك.بيد ان الصورة الناجزة للدولة، سواء في مثالها الأوروبي أو في سلالتها العربية والإسلامية المشوهة، تغفل بعداً هاماً لا يمكن فهم أزمة الدولة المستحكمة في بلادنا بدونها: تاريخ الدولة ونمط ولادتها ونموها وعلاقات القوة المرتكزة إليها. المدهش في الحالة الأوروبية أنه بالرغم من حجم القارة الصغير، وعدم وجود موانع جغرافية فاصلة بين أغلب شعوبها (اللهم إن استثنينا الجزيرتين البريطانية والإيرلندية)، فإن كل بلد من البلدان الأوروبية، صغيرها وكبيرها، يمتلك تجربة خاصة جداً ومتميزة لولادة ونمو واستقرار مؤسسة الدولة. أصحاب الأيديولوجيات الشمولية فقط هم من تصوروا وجود تاريخ سياسي واجتماعي متطابق لهذه الدول، بل وتصور الماركسيون منهم وجود قانون تاريخي واحد لكل دول العالم وشعوبه. وربما كان كتاب المؤرخ الاجتماعي الأمريكي بارنغتون مور جونيور، الجذور الاجتماعية للديكتاتورية والديمقراطية ، الصادر في 1966، أول دراسة هامة تتصدي للقراءات الشمولية وتكشف التباين الواسع بين السياقات التاريخية ـ الاجتماعية لبروز النظام السياسي الحديث وتطوره في عدد من البلدان الأوروبية الرئيسية، وبينها وبين بلدان أخري غير أوروبية. ولكن هذا ليس هو محل الاهتمام هنا.كل الدول الأوروبية تقريباً ولدت في ما يمكن ان نعتبره بيغ بانغ ، أي في ظروف انفجارية، مدوية، وعسيرة. لأنها دول قومية، ذات حدود، وسيادة، فهي بالتعريف دول مقتطعة، مقتطعة من امبراطوريات واسعة (روسية، رومانية مقدسة، هنغارية نمساوية)، أو من أراضي دول أخري؛ أو وليدة توحيد قسري لدويلات سابقة. برزت الدول الأوروبية في ظل حروب قارية، أو حروب أهلية، أو حروب توحيدية، أو حروب تحرير. برزت من رحم صراعات دموية بالغة، فرضت أمراً واقعاً جديداً، وعلاقات قوي إقليمية وداخلية جديدة. ولم تكن لحظة الولادة القاسية كافية لدفع ثمن السلام والاستقرار. ففي معظم أنحاء القارة، حكمت شعوب الدول الوليدة بقدر كبير من الدكتاتورية والتسلط والعنف، العنف الطبقي الاجتماعي، عنف الأكثرية ضد الأقلية الإثنية أو الطائفية، أو العنف السياسي ـ الايديولوجي ضد القوي والتيارات المخالفة. قبل خمسين عاماً فقط، كان أمة أوروبية متحضرة كألمانيا تتعهد مشروعاً صناعياً غير مسبوق لإبادة أقلية دينية بأكملها، وفي كل أنحاء القارة. وقد ظل العنف السياسي الديكتاتوري يطل بشبحه علي شعوب القارة إلي ان حسمت الحرب الباردة لصالح المعسكر الليبرالي ـ الرأسمالي في نهاية الثمانينات. حتي الحرب العالمية الثانية، لا تكاد حدود دولة واحدة من الدول الأوروبية قد استقرت؛ وظلت الحدود والنزاعات المناطقية (ذات الدوافع القومية أحياناً) تشعل الحرب تلو الأخري، بما في ذلك الحرب العالمية الثانية ذاتها. ليس ذلك وحسب، بل ان دولاً (كألمانيا) احتاج توحيدها واستقرار حدودها نهاية حرب باردة باهظة التكاليف، وضعت القارة كلها في ظل تهديد الاشتعال النووي. وفي مناطق اخري (كدول البلطيق) كان لابد للحرب الباردة ان تنتهي، وللاتحاد السوفييتي ان ينهار، قبل ان تمنح هذه الأمم الصغيرة الاستقلال والسيادة. وبالرغم من ان حرب التوحيد الإيرلندية تبدو وكأنها انتهت، فليس من الواضح بعد ما انتهت إليه. أما في شرق القارة، في البلقان الكبير، فلم تنته بعد الحروب الدموية البشعة حول استقلال الدول والقوميات، التي اشتعلت منذ مطلع التسعينات. ومن السذاجة وصف حروب البلقان بحروب شعوب الشرق الاوروبي المتخلف؛ فمن كرواتيا إلي البوسنة، ومن كوسوفو إلي مقدونيا، ليس ثمة اشتباك بلقاني واحد لم تكن دول الغرب الأوروبي الكبري لاعباً أساسياً فيه. هذه حروب أوروبية بامتياز، وليست حروباً بلقانية فقط.بيد ان ذلك كله لا يمنع ان أغلب دول القارة عاشت في القرن العشرين، وتعيش اليوم، استقراراً يفوق بكثير استقرار أغلب دول العالم الأخري، لاسيما الدول العربية والإسلامية. كما لا ينبغي ان تغيب حقيقة ان الاستقرار بات يزحف حثيثاً ليحيط القارة بأجمعها، من البوسفور إلي بحر الشمال. فهل هي مسألة زمن تلك التي تفصل عدم نضج مؤسسة الدولة الحديثة في المجال العربي ـ الإسلامي عن نضج واستقرار المثال الاوروبي؟ هل يحتاج السودانيون أو العراقيون أو الباكستانيون نصف قرن آخر من الزمان قبل ان ينمو لديهم شعور جمعي بالانتماء والولاء لمؤسسة الدولة في بلادهم، وتنتهي حروب الشمال ضد الجنوب والشرق ضد الغرب، وحروب قبائل الأطراف ضد المركز، والطوائف ضد بعضها البعض؟ هل هي مسألة مستوي معين من التطور السياسي والاجتماعي، ما ان تصل الشعوب العربية والإسلامية إليه حتي تحل لديها معضلة الدولة الحديثة، المستعصية منذ ولادتها؟ليس من السهل إغفال عامل الزمن، بالطبع، ولكن التقدم الكبير في عالم الاتصال وانتقال التجارب والبرامج والخبرات، يبدو كأنه اختصر الكثير من الزمن. أسبانيا، مثلاً، دولة متعددة الإثنيات، وقد عاشت لعقود طويلة في ظل نظام ديكتاتوري تحكمي. ولكنها سرعان ما انتقلت إلي نمط حكم ديمقراطي ـ ليبرالي، وإلي مستوي استقرار سياسي عالٍ، بعد مرحلة قصيرة فاصلة من الاضطراب. وما ينطبق علي أسبانيا، ينطبق علي دول مثل اليونان وبولندا وتشيكيا وسلوفاكيا. ما كان يحتاج عقوداً للتبلور في عالمي السياسة والاجتماع، أصبح من الممكن انضاجه خلال سنوات قليلة. إضافة إلي عامل الزمن، يمكن بالتأكيد ان نشير إلي الخصوصية الثقافية. فالدولة الحديثة هي أوروبية المنشأ، نتاج سياق أوروبي من الصراع ضد سلطة الكنيسة والإمبراطورية، نتاج صعود الفكرة القومية، وبروز طبقات اجتماعية متدافعة. وربما سيكون من الصعب زرع مؤسسة الدولة، في صيغتها الأوروبية، وسط مجتمعات عربية ـ إسلامية، بدون ان يرفضها الجسم الثقافي العربي ـ الإسلامي. هذه المسألة، ستبقي موضع جدل لفترة طويلة، وأجد من الصعوبة تقديم إجابة عنها. ففي دول إسلامية كماليزيا، تبدو الدولة الحديثة وكأنها استقرت بالفعل. وكذلك هو الوضع في الهند، ذات الميراث الثقافي الهندوسي ـ الإسلامي، المختلف كثيراً عن الميراث الأوروبي. ولأن عمر الدولة الحديثة، مقارنة بالتاريخ الإنساني الطويل، لا يزال قصيراً، فليس ثمة طريقة للتيقن من الدور الذي تلعبه الخصوصيات الثقافية والحضارية. ما أود الاختتام به هنا هو اقتراح عاملين رئيسيين، متداخلين إلي حد كبير، لتفسير التباين الواسع بين استقرار الدولة الحديثة في سياقها الأوروبي، واضطرابها القلق والمستمر في المجال العربي ـ الإسلامي.يتعلق الأول بفائض الرفاه الأوروبي، الموروث من النظام الاستعماري المباشر، والمستمر من خلال آليات متعددة بعد نهايته. فمنذ القرن السادس عشر، انطلقت الأساطيل الأوروبية تفرض سيطرتها علي أمم وشعوب وبلدان وثروات تفوق بكثير حجم وثروة القارة الأوروبية. ومنذ نهاية القرن الثامن عشر، تحولت هذه السيطرة إلي شبكات استراتيجية واقتصادية بالغة التعقيد، بفعل الثورة الصناعية والتطورات الهائلة في تكنولوجيا السلاح. ساهم النظام الإمبريالي في امتصاص أوروبي غربي غير مسبوق للثروة من مختلف أنحاء العالم، وفي إطلاق نهضة أوروبية غربية علي كل المستويات. وما ان وصل نظام الاستعمار المباشر إلي نهايته في حقبة التحرر الوطني حتي كانت القوي الأوروبية الغربية تسبق بقية العالم بأشواط، ليس فقط علي مستوي التطور الاقتصادي والتقني الداخلي، ولكن أيضاً علي مستوي التحكم بمصادر الثروة العالمية، والإمساك بمقاليد المؤسسات وأنظمة القوانين الدولية. وبذلك استمرت دورة الإلحاق والهيمنة تصب لصالح القوي الغربية، والدول المتحالفة معها. وفرت معدلات الرفاه الأوروبية الغربية المرتفعة مصدراً لا ينضب لتخفيف معدلات التدافع الاجتماعي الداخلي بين من يقفون أعلي السلم الاجتماعي ومن هم أسفله. ولكن هذا الرافد الاستقراري الكبير لعب دوراً أوسع من الدائرة البريطانية، أو الفرنسية، أو الهولندية الداخلية؛ فمن مرحلة إلي أخري، استطاعت الكتلة الأوروبية الغربية استقبال دول أوروبية أخري في منتدي الاستقرار، مستخدمة فائض الرفاه القاري للارتفاع بدول مثل إيطاليا، اليونان، أسبانيا، بولندا، إلي المستوي الأوروبي الغربي أو علي الأقل إلي المستوي الآمن، سياسياً واجتماعياً واقتصادياً. ولا يمكن بالطبع تجاهل الدور الهام الذي لعبته الولايات المتحدة، الشريك الرئيس لأوروبا الغربية، في هذا المجال.بيد ان فائض الرفاه لم يكن ليعمل، لا في الدائرة القومية ولا في الدائرة القارية، بدون الدور الفعال لميزان القوي. البلدان الاوروبية السابقة إلي استقرار الدولة والحكم هي تلك التي حسم فيها الصراع مبكراً لصالح طبقة اجتماعية، أو تيار قومي أو سياسي معين. ولم تبدأ القوي المنتصرة في السماح بتوزيع القوة ديمقراطياً إلا بعد أن وصل فائض القوة لديها مستوي آمنا تماماً. في بلدان أخري، كان الصراع القاري أو الإقليمي، والذي استمر أحياناً عقوداً طويلة، هو الذي ساهم في انتصار تيار أو كتلة فكرية ـ سياسية، ووضع بالتالي أسس الاستقرار. وقد لعب عامل الرفاه دوراً مزدوجاً في صراع القوي؛ مؤسساً لانتصار قوة علي أخري داخلياً، ليصبح من جديد أداة بالغة الفعالية في حسم توازنات القوة الاوسع، إقليمياً وقارياً. بدون ذهاب صراع القوي إلي نهاياته، لم يكن من الممكن صناعة الاستقرار السياسي الأوروبي، لا في دول الموجة الأولي (في أوروبا الغربية) ولا في دول الموجات اللاحقة (في وسط وجنوب وشرقي القارة).المشكلة الكبري في المجال العربي الإسلامي ان ميزان القوي السائد هو ميزان زائف، يرتكز إلي تدخلات خارجية أكثر منه إلي حجم ووزن القوي المتدافعة ذاتها. ولا تفتقد دول المنطقة إلي ميراث رفاه إمبريالي وحسب، بل أنها كانت مادة لنهب النظام الإمبريالي. وما ان جاءت الثروة النفطية، التي كان يمكن ان تحقق نهضة واستقراراً نســـبيين، حتي لعب ميزان القوي الزائف دوره في تبديد هذه الثروة، منع توزيعها طبقاً للحاجات والضرورات، ونهب الجزء الأكبر منها لصالح النظام الدولي المسيطر.ہ كاتب وباحث عربي في التاريخ الحديث9