تلك العيوب الصغيرة لكن القوية الدويّ!

حجم الخط
0

ذلك الشاب، الذي كان شاعر الكلية المرموق، أوصله زملاؤه أبناء الأغنياء إلى أن يشعر بنفسه ثقيل الدم. كان قد جالسهم لأول مرة في كافتيرها الجامعة، شبانا وشابات، وذلك بعد أن كان يلقي على المنبر قصيدة لنسيب عريضة. أربكهم هناك في الكافتيريا، إذ استخدم مجازا لا قِبَل لهم به في حديثه عن الكوافيرة وأزرار بلوزتها. ثم أشعرهم بضآلة معلوماتهم. وحين قالت له إحداهن، سوزي، «أنت مثقف خالص»، باغتها بالسؤال عن معنى الثقافة. ذلك من أجل أن تخطئ، ليصحح لها، مظهرا عن المزيد من ثقافته: «الثقافة بالتعريف الأكاديمي هي تركيب منتظم من المعارف والقيم»، قال، فأُسقط في يدهم، أما هو فأدرك بأنه ثقيل الدم.
لن يكسب في مجادلة، أو مغامرة، يخوضها معهم. حين دُعي إلى العشاء في بيت محيي راح يعلّق على شريحة من الجبن الرومي غير منزوعة الحافة السفلية: «إلحق يا محيي.. حتة جبنة رومي مش متنظّفة» قال منتقدا لظنّه أنه بذلك يرتفع إلى سوية صديقه ابن العائلة الثرية. لكن هذا الأخير أجابه بلا اكتراث:»إقطع الكعب وارميه». وكانت هذه «فشلة» بلغة اللبنانيين دعته هو إلى الاعتراف لداعيه: «تعرف يا محيي.. وأنا صغير كانت أمنية حياتي أن آكل قرص جبنة رومي كامل».
ثم إنهم هم الأغنياء يولدون وسيمين ناعمين. في قصتين متتاليتين من المجموعة يذكر، هو الشاب المتشكي، كيف أن وجوههم لا يغزوها حب الشباب ولا القوب. شعرهم ناعمة فوق ذلك ووجوههم بيضاء. الطعام الذي يتغذون به يساعدهم على ذلك: «عشان ما بتاكلوش فول.. بتشربو لبن.. بتاكلو عسل نحل ومربى».
ثم هناك يسري في قصة «ابن الأغنياء» الذي غلب أبناء الحي في الملاكمة ولعب الورق والدراسة والغرام وكل شيء آخر، وهو فوق ذلك جميل: «بشرته بيضاء صافية وليس في وجهه حب شباب، وأنفه صغير ومستقيم، عيناه واسعتان، شفتاه رقيقتان محمرّتان وأسنانه نظيفة بيضاء كالحليب». كل أوصاف الجمال تجمّعت فيه، الجمال النموذجي والمتوارث والذي، وإن خُصّ به يسري بالجملة وقد جمعت له، بالمفرق، كل تكوينات الجمال.

في الأوصاف الصغيرة تلك، كما في الواقعات الصغيرة، يُظهر القاص والروائي حسين عبد العليم عن فداحة ما في العلاقات، كما عما يفصل بين الشخص والآخر، ثم عما يفصل بينه وبين الآخرين المختلفين دينا وعمرا.

والمشكلة أن صاحبنا الفقير المنشأ لكن العصامي، الذي بات يعرف كيف يقصّون شعرهم وماذا يضعون على طاولة طعامهم ويعرف أيضا بأنواع العطور، المستورد منها وغير المستورد، حتى أكثر مما يعرفون، لن يستطيع أن يصل إلى أن يكون مثلهم. كشفه حارس الأمن في الفندق الذي كان يذهب إليه بصحبة رفيقه محيي. هناك، عند دخوله، سأله ذاك الحارس» «إنت عاوز مين؟» وبسرعة أنقذه محيي من الجواب حين تدخل قائلا: «أيوه.. الكافي شوب». وها هو يتساءل بمرارة: «شكلي مش وحش، ولابس زيّكم بنطلون جينز وقميص مشجّر.. طب عرفني ازاي؟».
كأنها مسافة يستحيل بلوغها. عالمان منفصلان ومتباعدان لن يكفي عمر واحد لكي ينتقل الطَموحُ العصاميّ من العالم الذي كانه، إلى العالم الذي يسعى إلى أن يصير فيه. لنتذكر ذلك التشكي من ريتشارد نيكسون في الفيلم الذي أخرجه رون هوارد عن فضيحة ووترغيت. قال نيكسون على الهاتف ناقما على الطبقة السياسية الحاكمة في أمريكا، تلك الآتية من منابت رأسمالية، إنهم يعرفون من أين أتى، كما يعرف هو، ولن يغفروا له ذلك. حتى رئاسته للولايات المتحدة ليست كافية ليصير منهم.
تفاصيل الاختلاف تلك، لن يكون تعدادها ومعرفتها كافيين لتلبّسها أو للتمكن من إتقانها. هي تفاصيل صغيرة لكن لها قوّة يصعب قهرها. في «بين القصرين» من ثلاثية نجيب محفوظ كان كمال يظن أنه سيبزّ جميع المدعوين في حديقة الفيلا التي دعتهم إليها زميلتهم التي اسمها نادية (ربما). أعدت له أمه فرختين محشوتين بالأرز، وبما يلزم وقلتهما بالسمن الفاخر الأصلي. لكن رفاقه، وأولهم محبوبته نادية، سخروا منه عندما كشف كل منهم عما جاء به. «إيه ده يا كمال» قالت له رافعة سندويشات الروز بيف والجبن.
هي صدمة أولى تلقاها بطل نجيب محفوظ. ظنّ أن الفراخ المحشوة هي أقصى ما يمكن أن يؤتى به، هو المسكين الذي أدرك للحظة أن الناس، في الغنى والفقر، لا يتدرجون مراتب بل تفصل بينهم أسوار عالية.
في الأوصاف الصغيرة تلك، كما في الواقعات الصغيرة، يُظهر القاص والروائي حسين عبد العليم عن فداحة ما في العلاقات، كما عما يفصل بين الشخص والآخر، ثم عما يفصل بينه وبين الآخرين المختلفين دينا وعمرا، كما الذي يفصل بينه وبين نفسه في تلك اللحظات التي يقف فيها متهيئا ليسافر وحده، من دون عائلته أو محبيه، إلى بلدان الإقامة المؤقتة. في أقسام مجموعته الثلاثة قرأنا كيف يكاد يُسمع دويٌّ من حدوث أشياء تكاد، لخفتها، تمر عادة من دون أن تلاحظ.
*«ألعاب قد تنتهي إلى ما لا تحمد عقباه» مجموعة قصصية لحسين عبد العليم صدرت عن دار ميريت – القاهرة في 153 صفحة- 2019.

٭ روائي لبناني

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية