يترقب العالم، هذه الأيام، ما يمكن أن يشعل فتيل الحرب بين الولايات المتحدة وإيران. ذلك أن العقوبات القاسية التي طبقتها واشنطن على طهران هي، بذاتها، نوع من إعلان الحرب. فإذا أضفنا التحشيد العسكري الذي قامت به الأولى حول الثانية، كنا إزاء مشهد يكرر ما حدث، في العام 2003، بالنسبة للعراق.
لكن الفوارق بين الحالتين هي أهم، ربما، من التشابهات. فمن ناحية إيران نرى أنها اليوم ليست بالضعف الذي كان عليه نظام صدام حسين في العراق. ومهما كثر الحديث عن وضعها المنهك، أصلاً، من العقوبات السابقة، زائد الكلفة الباهظة لحروب الوكالة التي قادتها في سوريا واليمن والعراق وعبء حزب الله في لبنان، فهي، بالمقابل، تمتلك أدوات إقليمية قوية على شكل ميليشيات واختراقات لمجتمعات البلدان العربية، يمكنها أن تسبب أذى كبيراً للقوات والمصالح الأمريكية أو مصالح حلفائها الإقليميين، في حال اندفعت الولايات المتحدة إلى حرب عسكرية صريحة ضدها.
ومن ناحية الولايات المتحدة، هي أيضاً أقل قوة مما كانت عليه في العام 2003، ليس بمعنى الإمكانات العسكرية المتفوقة بلا شك، ولكن بمعنى القدرة على اتخاذ قرار الحرب. ليس فقط لأن الرئيس ترامب كان قد وعد، في حملته الانتخابية، بسحب القوات الأمريكية من المنطقة، وما يعنيه ذلك من عدم استعداد الرأي العام الأمريكي لخوض مغامرة عسكرية جديدة بعيداً عن الحدود الوطنية، ولكن أيضاً بسبب وضع ترامب المهزوز في المؤسسة الحاكمة بسبب «فضيحته الروسية»، واقتراب موعد الانتخابات الرئاسية التي من شأنها أن تقيد أكثر قدرته على اتخاذ قرار، ووجود معارضة قوية له في الكونغرس.
ومن أهم الفوارق بين الأمس اليوم، غياب أي غطاء سياسي من الحلفاء التقليديين للولايات المتحدة، الدول الأوروبية الرئيسية بصورة خاصة، ناهيكم عن الغطاء الأممي الغائب. ليس هناك، عموماً، متحمسون للحرب المتوقعة غير الثنائي بولتون ـ بومبيو، وفي الخارج بنيامين نتنياهو. حتى دول الخليج العربية التي حرضت ضد إيران، طوال السنوات السابقة، لا تبدو متحمسة لنشوب الحرب، وهي أكثر تفضيلاً لتحقيق نتائج مرغوبة بواسطة التهديد بالحرب، لا بالحرب ذاتها.
الواقع أنه حتى الإدارة الأمريكية، وترامب بخاصة، يبدو أكثر تفضيلاً لإرضاخ إيران بالتهديدات الجدية المعززة بالعقوبات القاسية، أكثر من رغبته في خوض الحرب فعلاً. وهذه ليست، على أي حال، شيئاً فريداً يخص الحالة الراهنة، بل ربما هي القاعدة العامة بالنسبة للنزاعات بين الدول. لا أحد يفضل خوض الحرب إذا كان التهديد بها يحقق النتائج المرجوة بكلفة أقل. فالحرب، في نهاية المطاف، هي صراع إرادات. إذا استطاع القوي كسر إرادة الأضعف منه وإخضاعه، يكون قد حقق أكثر مما يمكن لأي نصر عسكري أن يحققه.
الحل «المنطقي» هو أن تتصرف طهران بعقلانية وتنكفئ إلى داخل حدودها، ما دامت القوة التي سمحت لها سابقاً بالتمدد، لفترة مؤقتة، اتخذت الآن قرارها المعاكس بإنهاء فترة التفويض أو السماح
النزاع الأمريكي ـ الإيراني مرده أصلاً هو رغبة حكام إيران في التصرف كقوة اقليمية عظمى قادرة على إملاء شروطها على جيرانها الإقليميين والحصول على رضوخهم لابتزازها. وإذا كانت الولايات المتحدة قد تصرفت معها بتسامح، في المراحل السابقة، سواء أثناء الحربين الأمريكيتين على أفغانستان والعراق، أو بعد ذلك أثناء ولايتي أوباما، فقد آن الآوان لانتهاء فترة السماح، بسبب تعاظم الدور الإيراني في الإقليم بما تجاوز الحدود المسموح بها أمريكياً ودولياً.
الحل «المنطقي» وفقاً لهذا المخطط هو أن تتصرف طهران بعقلانية وتنكفئ إلى داخل حدودها، ما دامت القوة التي سمحت لها سابقاً بالتمدد، لفترة مؤقتة، اتخذت الآن قرارها المعاكس بإنهاء فترة التفويض أو السماح، بخاصة وأن القيادة الإيرانية ليست في وضع مريح، داخلياً، لتعاند الإرادة الأقوى منها. غير أن نشوة القوة «الإمبراطورية» لها مفعول مسكر، يبدو أن حكام إيران لا يستطيعون التخلي عنه، مهما بدا هذا التخلي هو عين العقل. أضف إلى ذلك أن رضوخهم، بدون حرب، بعد طول معاندة، سيكلفهم ثمناً غالياً، فتصبح إيران عرضة لابتزازات متتالية في مقبل الأيام، لن تملك إزائها إلا الاستمرار في الخضوع المرة بعد المرة، كحال المقامر الذي يعلن استسلامه قبل أن يخسر فعلياً.
المرجح، وفقا لهذا المنظور، أن تواصل إيران المعاندة مع الاستعداد لدفع الثمن مهما كان باهظاً. ربما يساعدها على ذلك خبرتها السابقة في الحرب مع العراق التي خسرت فيها الكثير، لكنها تمكنت من تجاوز الحالة الصعبة لتنتقل، بعد ذلك، إلى الهجوم، أي التمدد الإقليمي. كما أنها تراهن على صعوبة اتخاذ القرار بالحرب بالنسبة للرئيس ترامب، فإذا حدثت كانت كلفتها على الولايات المتحدة أعلى ـ نسبياً ـ من كلفتها على إيران. سواء تعلق الأمر بالعجز عن تحقيق أهداف الحرب (أي الإرضاخ) بصرف النظر عن الدمار الذي يمكن للأمريكيين أن يلحقوه بقدرات إيران العسكرية والاقتصادية والبشرية، أو بأي خسائر بشرية أميركية مهما كان حجمها صغيراً.
هو، إذن، حساب الذي ليس لديه ما يخسره أمام الذي تعز عليه أقل خسارة. بهذا الرائز يمكن للقيادة الإيرانية أن ترفض الرضوخ للشروط الأمريكية وتذهب إلى النهاية في المواجهة. فهي ستكون مواجهة رابحة لها مهما كانت نتيجتها قاسية عليها، على نفس منوال «النصر الإلهي» لحسن نصر الله في العام 2006. وبخاصة إذا استطاعت تحييد أوروبا عن الصراع أو ربما كسب تعاطفها.
صحيح أن إيران ستخرج من أي حرب مع الولايات المتحدة مثخنة بالجراح، لكنها لن تصل حد التراجع عن طموحاتها الإقليمية، إلا إذا أصبح النظام مهدداً بالسقوط. فقط في هذه الحالة يمكن له أن يراجع سياساته الخارجية. أما ما دون ذلك، فمن شأنه، بالعكس، أن يدفع النظام إلى مزيد من الانخراط في شؤون الإقليم تعويضاً عن خسائره، حاشداً خلفه وحدة وطنية صلبة ضد «الخارج الشرير» ومزوداً برواية عن مظلومية وطنية متأججة.
كاتب سوري
يقول الكاتب الكريم ان ايران “تمتلك أدوات إقليمية قوية على شكل ميليشيات واختراقات لمجتمعات البلدان العربية، يمكنها أن تسبب أذى كبيراً للقوات والمصالح الأمريكية أو مصالح حلفائها الإقليميين” و لكن العجيب ان هذه الادوات لم تشتبك يوما مع القوات الامريكية في سوريا و العراق منذ 2003. و ان من تصدى للامريكان كان القاعدة و بعض التنظيمات الشيعية غير الخاضعة لايران في وقتها. و لم ترد ايران حتى على الضربات الامريكية او الاسرائيلية الذلة لها.