تاريخ الامبراطورية الأمريكية هو تاريخ «تأسيس القواعد العسكرية في الأراضي الأجنبية»، ومثلما أكد هيرفريد مونكلر، فإن منتقدي الولايات المتحدة الأمريكية ينفون وجود خصائص جديدة في هذه الإمبراطورية، مؤكدين أنها لا تختلف قليلا ولا كثيرا عن الخصائص التي يتسم بها الاستعمار الكلاسيكي. فالمنطق الاستعماري الأمريكي راهن على تقسيم العالم إلى خمسة أقاليم، وطمح إلى السيطرة عليها عبر «القوة الخشنة» في المقام الأول.
وتحت عنوان الحيلولة دون تعرض المصالح الأمريكية للخطر، كُلفت القيادات العسكرية بالسيطرة على أقاليم في أمريكا اللاتينية وأوروبا والشرق الأوسط ومنطقة المحيط الهادي وأمريكا الشمالية. وفي هذه الأقاليم سُخر آلاف الجنود تحت تصرف القادة العسكريين الذين يشبههم البعض «بالولاة» الذين كانت الامبراطورية الرومانية تُنصبهم في المناطق الخارجية الخاضعة لسلطانها.
وعندما يكون هذا العدد من الجنود موزعين على ما يقارب 700 قاعدة عسكرية منتشرة في ما يزيد على 150 بلدا، صار في مستطاع الولايات المتحدة أن تنقل العتاد والتشكيلات العسكرية في غضون زمن قصير، وتُحرك البوارج للضغط والتهديد. وإن لم تستخدم كل هذه القوات، فإن وجود القواعد العسكرية ذاته يُفضي إلى سيطرة دائمة على الإقليم المعني. فهي تمثل «العمود الفقري» للإمبراطورية الجديدة، وتمنحها القدرة على مواصلة العمل بالسياسة الإمبراطورية التي عرفتها البشرية حتى القرن التاسع عشر. ومع سياسة العولمة أصبح الضغط الاقتصادي والعقوبات المالية والتجارية بمثابة الصيغ الحديثة للاستعمار والرغبة في الاخضاع. وهو ما حدث فعلا في السنوات الأخيرة ضمن ديناميكية «القوة الناعمة»، رديفا «للقوة الصلبة»، فمشروع العولمة اتخذ بُعدا يكاد يجعل من «اقتصاد البوارج الحربية» استراتيجية يمكن التقليل منها لصالح خيار الخنق الاقتصادي والمالي، عبر صندوق النقد الدولي والبنك الدولي، وتحيزات منظمة التجارة العالمية، وغير ذلك من العقوبات التجارية والصناعية والآليات المُفضية إلى الحصار والعزل.
مع سياسة العولمة أصبح الضغط الاقتصادي والعقوبات المالية والتجارية صيغا حديثة للاستعمار والرغبة في الإخضاع
التسويغات التي ساقتها الولايات المتحدة الأمريكية في تدخلاتها العسكرية قد انطوت على تضليل وأكاذيب لا مثيل لها، وبما أن شن الحروب له تكلفة اقتصادية، لا تُرضي غالبا الداخل الأمريكي، احتاج الرئيس الذي يتخذ قرارا بخوض الحرب إلى «التذرع بمسوغات مُلفقة» لكي يحظى بدعم شعبي، والأمثلة على ذلك كثيرة تاريخيا ووثائقيا، ابتداء مما عُرف بحادثة «خليج تونكين» سنة 1964 وهي الواقعة التي زعمت إدارة ليندون جونسون أن قوات جبهة التحرير الوطني الفيتنامية شنت في أغسطس/آب من ذلك العام هجوما على السفينة الحربية الأمريكية «مادوكس» وقاذفات بحرية أخرى، وكانت مجرد كذبة تذرعت بها الإدارة الأمريكية لاستعمال جميع الوسائل العسكرية ضد فيتنام الشمالية، كالتجميع القسري للسكان وتصفية الأسرى والقصف بقنابل النابالم الحارقة، وتحطيم الغطاء النباتي، مرورا بشن الحرب في الخليج عام 1991، بعد الزعم أن الجنود العراقيين قتلوا أطفالا كويتيين يرقدون في صناديق حضانة المستشفى. وكانت مسرحية بمثابة رهان من قبل وسائل الإعلام والحكومة لخلق ضحية يمكنها أن تبيع تلك الحرب للشعب الأمريكي، وانتهاء بزعم امتلاك العراق أسلحة الدمار الشامل، وأن نظام صدام حسين يُشكل تهديدا للعالم الحر، من دون أن ننسى ما يشوب أحداث الحادي عشر من سبتمبر/أيلول من تلفيقات ومؤامرة أتى على ذكرها بعض السياسيين الأمريكيين أنفسهم وذلك في مذكراتهم تصريحا أو تلميحا. كل تلك المزاعم وغيرها مما نرى بوادرها، تتشكل هذه الأيام ضد جمهورية إيران الإسلامية، يمكن تصنيفها تحت عناوين «الأكاذيب الكبرى للدولة المارقة»، قُدمت لاختلاق تهديدات ومخاطر تتذرع بها واشنطن لفرض مصالحها وتوسيع سلطانها، إلى درجة أن المرء يتجاهل هنا في أغلب الأحيان «الأسباب الهيكلية» التي تُجبر الولايات المتحدة الأمريكية على اختلاق مزاعم بهذا الحجم، مثلما ذهب إلى ذلك الكثير من نقاد السياسة الخارجية لأمريكا ومنهم هيرفريد وتشارلز جونسون وغيرهما، بالنظر إلى الخسائر الكبرى التي تكبدتها «الامبراطورية التصحيحية»، ولم تعتبر رغم منسوب المقاومة الذي يتعرض له «فريق المهام الرديئة» وينتهي به في كل مرة إلى مستنقع يصعب الخروج منه.
ولا مراء في أن هذه الأكاذيب وسيلة ناجعة في النظام الديمقراطي، لكسب تأييد الرأي العام، وحفز المواطنين على مناصرة «النظام الامبراطوري»، وبهذا المعنى فإن مغالطة الأوساط الجماهيرية الواسعة من خلال الدعاية بأن كل ذلك يصب في مصلحة الأمن القومي الأمريكي، ويخدم المصالح الحيوية، ويأتي ضمن الحرب الوقائية والخطوة الاستباقية لتطويق دول «محور الشر»، وسيلة لسد الفجوة القائمة بين مستلزمات الديمقراطية ومتطلبات الامبراطورية التي تكشف عن نفسها، وتظهر للعيان على أنها «قوة عملاقة عسكريا» و»دولة متطفلة اقتصاديا» و»كيان فصامي الشخصية سياسيا»، و»شبح وهمي أيديولوجيا». ولكن منطق الهيمنة الامبراطوري مآله الزوال في النهاية، والتاريخ يحفظ كيف انتقلت القوى الاستعمارية الكبرى من عز الاستطالة إلى ذل الاستكانة، فانكسرت وأنِست المهانة والخضوع. فتأمل، ولن تعدو وجه الحق في ذلك إن كنت من أهل الانصاف.
كاتب تونسي
مقال غاية في الروعة ذاك هو الغرب الفاسد ومؤامراته ودسائسه لانهاك الأمة واستنزاف مواردها.
متابعتك دافعية نأنس لها . دمت قارئا وفيا للقدس العربي و شكرا لتقديرك و تقييمك للمقال.
أشرقت أيامك العزيز “آزر”