في كتابها الذي ينقسم إلى ثلاثة فصول والموسوم بـ»سرديات النسوية»، تؤكد الباحثة سلمى براهمة على أن مفهوم (النسوية) هو الأكثر تعرضا للخلط والفوضى والتضارب في تحديده، كما أنه من المفاهيم التي أثارت جدلا كبيرا نتيجة تباين المواقف إزاءه بين معارض ومؤيد ومتحفظ، وبعودتها إلى التاريخ تتقصى براهمة البدايات التي ظهر فيها مصطلح النسوية لأول مرة، مشيرة إلى أن ذلك تم في تسعينيات القرن التاسع عشر، في إطار تسمية الحركة النسائية التي كانت تشهد شعبية وتـألقا كبيرين آنذاك، إلا أنها تجد أن النسوية باعتبارها نظرية أو فكرا لم تكتمل ملامحها إلا في ستينيات القرن العشرين. وترى براهمة حسب قولها إن «الرواية النسائية والرواية النسوية لاتزالان موضوع نقاش لأن بنيتيهما الفنية والدلالية ظلتا مفتوحتين على الأسئلة، وعرضة للالتباس والخلط والفوض في الرؤى والتصورات في التناول والدراسة، ولم تجدا طريقيهما إلى البحث العلمي الجاد وإلى النقاشات النقدية الأكاديمية الرصينة المتنصلة من كل نزعة تحقيرية أو تمييزية».
مفهوم النسوية
لأجل تحديد مضمون مفهوم النسوية تستعين براهمة بما وضعه عدد من الأسماء النسوية بهذا الخصوص، منهن الرائدة النسوية توريل موي، وفي مقال لها تحت عنوان»بين النسوية والأنثى والأنوثة»، حيث ميزت موي بين هذه المفردات الثلاث، باعتبارها الأكثر تعرضا للخلط وللاختلاف في التحديد، كما تستعين أيضا بتعريف الباحثة والفيلسوفة الأردنية خديجة العزيزي، إذ تقول بأن هذا المصطلح يطلق على الفكر المؤيد لحقوق النساء والداعي لتحريرهن من القمع الذي تمارسه السلطة الذكورية ضدهن.
وفي هذا السياق تطرح سلمى براهمة مجموعة أسئلة، حاولت توريل موي مناقشتها في مقالها: هل كل النساء نسويّات؟ هل التجربة المشتركة للنساء قادرة وحدها على جعلهن نسويات؟ هل اعمال النساء الإبداعية والنقدية مثلا نسوية، لأنها نسائية أو قامت بها نساء؟ هل يمكن للرجال أن يكونوا نسويين رغم أنهم يفتقدون لتجربة الأنثى؟ ما علاقة النسوية بالأنوثة وبالأنثى؟ هل الأنوثة جوهر المرأة؟ أليست الجوهرية أو الاعتقاد بطبيعة معينة للأنثى تخدم في النهاية مصلحة أولئك الذين يريدون أن تعمل النساء وفق نماذج الأنوثة المعروفة سابقا؟ كل هذه الأسئلة طرحتها لأجل أن توضح مستويات الخلط وجوانب التداخل بين هذه المفاهيم وتأثير ذلك على النسوية سواء باعتبارها حركة أو نظرية.
النسوية في الثقافة العربية
تجد براهمة أن مصطلح النسوية استطاع أن يعبّر عن فكر وحركة وكتابة في الثقافة العربية، وصارت الآن التيار الأبرز في ما بعد الحداثة، واستقطب إلى صفوفه عددا من المفكرين الذكور. بالتالي وجدت هذا الوضع الخاص قد سمح باتساع دائرة المقاربات والقراءات النقدية النسوية وتنوع مشاريعها، وصنفتها بالشكل الآتي: منها ما حاول إعادة قراءة نصوص روائية نسائية طبعت تاريخ الإبداع الروائي النسائي وتاريخ الأدب العربي، التي لم تحظ بالتلقي المناسب، ومنها ما نبش في ذاكرة الرواية العربية عموما ليكشف عن وجود روايات رائدة ساهمت بقوة في تأسيس البدايات، التي تم طمسها أو تجاهلها وتهميشها، ومنها قراءات حاولت البحث عن تأطير نظري لهذه التجربة، وأخرى تساءلت عن جماليات نسوية أو نسائية، ومنها ما اكتفى بالتركيز على الأعمال الإبداعية النسائية لجعلها محط الأنظار بدون الخوض في نقاشات الخصوصية النسائية وجمالياتها.
النقد النسوي والحركات السياسية
وفي سياق الحديث عن النقد النسوي والدراسات الأدبية، تؤكد براهمة على ارتباط النسوية فكرا أو نظرية بالحركات النسائية السياسية في البداية من أجل تغيير أوضاعهن، وتصل في تحليلها إلى أن هذا المسار أفرز خطابا في حضن الفكر النسوي يتداخل فيه السياسي بالأدبي والحقوقي المطلبي بالفكر التنظيري، والإعلامي، والشعبي أو الجماهيري، بالرسمي الأكاديمي، وأطلق عليه النــــقد النسوي انطلاقا من ستينيات القرن العشرين، وسيعــــد فرعــــا جديدا للدراسات الأدبية.
إلاَّ أن تـــوريل موي تصف النقد الأدبي النسوي بكونه عبارة عن نوع خاص من الخطاب السياسي، ومن وجهة نظرها ليس سوى تطبيق نقدي ونظري يلتزم بالصراع ضد الأبوة وضد التمييز الجنسي، وليس مجرد اهتمام بالجنس في الأدب.
وفي ضوء تعدد المناهج التي عمل عليها النقد النسوي تستخلص براهمة توصيفا له، يضعه في إطار ممارسة تنظيرية وتطبيقية أهدافها وطموحاتها أكبر وأوضح من آليات ووسائل اشتغالها، وتضيف أنه قد فتح ورشا كبرى في الأدب وتاريخه، في علم النفس واللسانيات وفي الثقافة والإعلام، من خلال وجهة نظر جديدة، وبواسطة جهاز مفهومي جديد مرتبط بالاختلاف بين الجنسين، وبالصراع ضد النظام الأبوي والفكر الذكوري المتحيز ضد النساء.
العولمة والنقد النسوي
في محور السرد الروائي والهوية يشير الكتاب إلى أنه في ظل النظام العولمي الجديد، الذي رفع شعارات تفكيك المركزيات وزحزحتها بما يتيح مكانا وصوتا للهامش والتابع والأقلـــــيات، بما يسمح بدراسة أدبها وتعبيراتها الخطابية المختلــــفة، ولعل النقد النسوي أهم هذه الدراسات، إضافة إلى نظرية مابعد الكولونيالية وقراءات بول ريكور المتميزة للسرد واقتراحه مفهوما جديدا في هذا الاطار هو مفهوم الهوية السردية.
تضيف براهمة معلقة على تجربة زينب فواز أن أهم ما يميز هذه الكاتبة هو نزعتها التحررية العميقة، واعتبار نضالها جزءا لا يتجزا من نضال المرأة العربية ونضال النساء في العالم، من أجل المساواة والحرية.
سرديات نسوية عربية
وتتساءل الباحثة: هل يمكن الحديث في إطار الرواية العربية عن روايات تتخذ صراحة أو ضمنا موقفا من النظام الأبوي، وتحارب الفكر الذكوري وكل أشكال تمييزه ضد النساء وتطرح جماليا وفنيا أسئلة الهوية وقضايا الأنوثة من موقع الأنوثة ذاته؟ وهل عرف العالم العربي حركية فكرية نسوية أسفرت عن فكر أو ثقافة أو نقد نسوي عربي؟ ألم تتسرب إليه شعارات الحركات النسوية الغربية التي استطاعت أن تحقق عددا من المكتسبات والإنجازات منذ منتصف القرن التاسع عشر في إطار الاحتكاك بالثقافة وبالآداب الأجنبية، وفي حضن الحركية التي شهدها العالم العربي نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، بفعل أسئلة النهضة والحداثة والإصلاح؟ هذه الأسئلة كما توضح المؤلفة قد فرضتها سياقات الدراسة وإطلالة لازمة لموقعة الخطاب الروائي النسوي ضمن خطابات أخرى، ولمعرفة مكانته داخل البيئة الثقافية العامة. وتصل في الإجابة على أسئلتها إلى أن الاديبة والشاعرة اللبنانية زينب فواز ( 1845 – 1914 ) أصدرت كتابا سنة 1885 بعنوان «الدر المنثور في طبقات ربات الخدور» ويعد من الدراسات النسوية الرائدة، التي تقارب التاريخ من وجهة نظر نسوية، حيث حاولت فيه أن تعرّف بأربعمئة وست وخمسين امرأة من الشرق والغرب، ثم أصدرت كتابها الثاني «الرسائل الزينبية» سنة 1906 عن «حقوق النساء في الثقافة والعمل والمواطنة، بكل أبعادها السياسية والاجتماعية والمهنية»، وتضيف براهمة معلقة على تجربة زينب فواز أن أهم ما يميز هذه الكاتبة هو نزعتها التحررية العميقة، واعتبار نضالها جزءا لا يتجزا من نضال المرأة العربية ونضال النساء في العالم، من أجل المساواة والحرية. ولعل أبرز ما في مسيرة هذه المرأة ريادتها في مجال الرواية العربية، فقد أصدرت فواز روايتها «حسن العواقب» سنة 1899 أي قبل نشر رواية «زينب» للكاتب محمد حسين هيكل بخمسة عشر عاما. كما تطرقت إلى تجربة كل من: مي زيادة (1866- 1904 )، وردة اليازجي (1838 -1924 )، عائشة التيمورية (1840 – 1902 )، ملك حفني ناصف (1886 – 1920).
نماذج روائية نسوية عربية
وتختار سلمى براهمة مجموعة الروائيات العربيات أمثال، سحر خليفة، ليلى العثمان، فاتحة مرشيد، علوية صبح وتضع عددا من أعمالهن الروائية تحت عين النقد، بحثا عن الهوية الأنثوية، وتصل إلى خلاصة مفادها أن الاغتراب والأنوثة ثيمتان مركزيتان في الرواية النسوية، والبحث عن هوية أنثوية يضع المرأة أمام إشكالات عدة فهي حين ترفض الأنوثة التي تواضع عليها الفكر الذكوري ورسخها بكل أشكال الخطاب تضطر أحيانا إلى رفض الأنوثة الطبيعية التي تصوغ هويتها، وحين تفر من نموذج أنوثة يسلبها إنسانيتها ويحرمها من الإرادة والاختيار، وحقها في تقرير مصيرها، لا تجد إلا نموذج الذكورة لتحاكيه، باعتبار الرجل يتمتع بحريته وكامل حقوقه، وحينما تحاول تقليد الرجل أو التماهي معه، فإن علاقتها بذاتها وبالآخر تتوتر وتعيش انقساما وازدواجية قاتلة، فالانثى في الرواية النسوية ضد الأنوثة المصطنعة، الأنوثة المفروضة التي تحول الكائن إلى مسخ، غريب عن ذاته، وتنتصر لأنوثة تستعيد بها توازنها، ذاتها، واختياراتها، تستعيد بها الإنسان داخلها.
«سرديات النسوية»: سلمى براهمة- دار الحوار للنشر والتوزيع – دمشق -الطبعة الأولى 2019- عدد الصفحات 284.
٭ كاتب عراقي