■ من العسير هذه الأيام انتقاء الكلمات وضبطها بدقة كي لا ينساق المرء وراء اندفاعاته الأولية، سواء ً أكان ذلك دفاعاً أم هجوماً، خاصةً في ظل إدراكٍ بصعوبة التفكير بوضوح وسط كل ذلك الضجيج من صخب الإعلام ونهيقه، مكتوباً كان أم مرئياً، والاحباطات والأحداث والمتغيرات الإقليمية الأوسع، ولعل الأفيد والأكثر تسليةً في وقتٍ كهذا هو، متابعة ومحاولة فهم ما يحدث في الكهرباء وانقطاعاتها المتكررة والطويلة في مصر (إن أمكن)، ليس فقط لكون ذلك الأمر يشكل واقعاً معذباً يفرض نفسه، وإنما لكونه يعطي «نموذجاً» لكيفية تعاطي النظام مع مشكلة ملحة تطال عشرات الملايين ولا يمكن التملص منها، على الأقل ظاهرياً.
على الأغلب لم ينس الناس كيف استُغل ملف الطاقة في الهجوم على الإخوان والحشد والتعبئة ضدهم أثناء فترتهم في الحكم، وقيل في ذلك الوقت ان الوقود والكهرباء يتم تهريبهما لغزة، وقد جوَّد أحدهم يوماً فأضاف على مسمعي أن غزة هي الأخرى ليست سوى محطة في طريق نهايتها السوق السوداء في إسرائيل، تم ترديد ذلك في وسائل الإعلام المشبوهة وشبكات التواصل الاجتماعي، ثم أزيح الإخوان وعادت الطاقة بقدرة قادر في اليوم التالي: هل تم استردادها من السوق السوداء في إسرائيل حيث بيعت؟!
وها هي أزمة الكهرباء تتكرر، بشكلٍ أكثر حدة هذه المرة، ومن سوء حظ الحكومة أنها لن تستطيع إلصاق هذه البلوى بغزة وسكانها البائسين المحاصرين الذين يتكالب عليهم الجميع! لكن لأن الجهاز البيروقراطي وماكينة الإعلام لا يعييهم البحث عن كبش فداء، ولما كانوا متمرسين، لا في أداء وظائفهم وإنما في نسج أساطير المؤامرة وإغراق الناس في بحورٍ من الكلام تضيع فيها الحقائق القليلة اليتيمة كشعيراتٍ في تلالٍ من القش، فلم يعدموا أن وجدوا «متهماً» يعلقون على عاتقه ذلك الفشل، خاصةً أنه ليس بعيداً عن غزة: الإخوان، مرةً أخرى، ويبدو في حقيقة الأمر أن النظام لا يستطيع أن يعيش بدونهم، ودورهم في العرض لا ينتهي، فهم يخرجون من الشمال ليعودوا إلى خشبة المسرح من اليمين، ثم يخبرنا أشاوس الحكومة أن الإخوان يفجرون أبراج الكهرباء وأنهم يصلحونها، ولا تملك إلا أن تسأل: إذا كانت تلك الأبراج مستهدفة إلى هذه الدرجة، فلماذا لا تقومون بتوفير الحراسة لها؟! ثم، وهو الأهم، ما هي نوعية الأعطال والعطب الناجم عن التفجيرات التي تتمكنون من إصلاحها في ساعاتٍ وأيام؟!
ومن ناحيةٍ أخرى يخرج علينا مسؤولو الحكومة، تارةً يبشروننا بأن الكهرباء لن تنقطع «ثانية واحدة» بعد أربع سنوات، «ثانية واحدة»! الله أكبر!، لكن، أربع سنوات! أليست هذه مدة طويلة بعض الشيء؟ ويبدو أن هذا الانطباع والجزع قد وصلهم (عن طريق أجهزة الأمن والاستخبار بكل تأكيد) فسارع أحدهم يطمئن الجمهور بأن المشكلة ستنتهي يوم الأحد التالي لتصريحه، خاصةً بعد توبيخٍ من الرئيس، وبالفعل تحسنت الكهرباء نسبياً، أي أننا نستطيع الاستنتاج ببساطة بأن مسؤولي الحكومة «يطخون» تصريحاتٍ غير مسؤولة، وأن هناك مقدرةً ما على تحسين أوضاع المواطنين نسبياً وبشكلٍ ملموس، بما قد ينعكس في شيوع حالةٍ من التفاؤل والنظر بإيجابية للمستقبل، إلا أن ذلك لا يتحقق بسبب سوء الإدارة وترهل منظومة الخدمات وكل ما تزخر به أروقة البيروقراطية المصرية الرثة من مقدرةٍ فذة على العرقلة والتعجيز.
حدثٌ آخر يتقاسم المشهد ويزاحم الكهرباء وسط فرقعةٍ وزفةٍ إعلامية غير مسبوقة: مشروع «قناة السويس الجديدة». للإنصاف، حاولت أن أفهم طبيعة هذا المشروع بدقة وفشلت، لن أستاء إذا ما اتهمني أحدهم بالغباء، كما قد آليت على نفسي ألا أهاجم المشروع للتغطية على ثلامة ذهني وشح ذكائي، إلا أن لدي بضعة تساؤلاتٍ عامة: أولاً، يزعم البعض أن ذلك المشروع سيساهم في استصلاح ملايين الأفدنة، موسعاً رقعة الأرض الزراعية بما يقارب المساحة المتوارثة من عهد فرعون الأول رحمه الله. والسؤال هو من أين لنا بالمياه التي ستسقى بها تلك الأراضي ومصر يتهددها التصحر وكارثة مائية بسبب سد النهضة، وما الحديث عنه بالبعيد العهد ولم يحسم بعد بصورة مضمونة؟ من أين لهم بالطاقة والكهرباء لتشغيل هذا المشروع؟!
ربما نسيت عبر السنين الكثير من الأشياء إلا أن ذاكرتي لما تزل تسعفني بذكرى مشروع قناة توشكي في النصف الثاني من تسعينات القرن الماضي؛ حينها شهدنا وعشنا زفةً مماثلة للتي نعيشها اليوم، وأنتجت الشركة الشرقية للدخان سجائر توشكي (كانت حقيرة ورديئة في حقيقة الأمر وربما فائدتها الوحيدة أنها من فرط ردائتها تقنعك بالإقلاع عن التدخين) ومن ثم انزلق هذا المشروع إلى مستنقع النسيان بعد أن ابتلع نسبةً كبيرة من احتياطات العملة الصعبة كالثقب الأسود، لم يُعلن فشله لأننا، نحن العرب، لا نعرف الفشل، نحن دائماً منتصرون.
إن تأمل الصورة بغثها وصخبها المصم يقودني إلى قناعة بأن نظام السيسي يعيش أزمةً عميقة، أزمة البحث عن شكلٍ وهوية وأولويات ومشروعية، وربما تداعب بعض شخوصه أحلامٌ بتوسيع قاعدة النظام الشعبية بتغيير انحيازاته، بشكل سطحيٍ طفيف بالطبع، أعلم أن جناحاً مهماً في السلطة، خاصةً المنظومة الأمنية، صدقت بنظرية المؤامرة التي روجت لها وكانت أحد ضحاياها متناسيةً ومتعاميةً عن أي أسبابٍ موضوعية للسخط والثورة، إلا أن جناحاً آخر (وأحسب السيسي منه) بات يدرك أن تناقضاً عميقاً أدى إلى الانفجارات الشعبية، ويدرك ذلك الجناح أنه بحاجة إلى مشروعية؛ فمن ناحيةٍ هو نظامٌ محكوم بميراث دولة مبارك التي يمثل امتداداً لها ويتشابه معها في أغلب المناحي، وفي هذا السياق لعل أهم ما يذكر هو الانهماك والاستغراق في ترميم منظومة الأمن والقمع وتوفير نوعٍ من الحصانة لضباطه، ذلك الاستغراق الذي تحدوه رغبةٌ مسعورةٌ في الانتقام.
من ناحيةٍ أخرى نجد أن بعض الأولويات مفروضةٌ عليه في صورة ديونٍ لدول الخليج التي دعمت وصول السيسي للحكم وقامت بدور القابلة لبروز نظامه، ولا أعني هنا الديون المادية فقط، وإنما خدمات وانحيازات اجتماعية والتزام بوقف مد الثورة، والأهم من ذلك الاصطفاف الإقليمي ضد أي مشروعٍ أو مصلحة تناوئ محور السعودية – الكويت- الإمارات، كإيران أو الدول الداعمة للمشروع الإخواني.
النظام يريد أن يقول شيئاً وأن يَعِد بمنجزاتٍ خارقة تقلب الموازين، أن يكون له مشروع وأحلام، وبعض رجاله يدركون أن العيون الناقدة مسلطةٌ عليهم، وأن زمن الحكم لعقود بدون منجزات حقيقية ربما يكون قد مضى، إلا أنه لا يريد الاعتراف بالواقع القبيح ناهيك عن مجابهته، ولا يريد أن يصارح الناس به، فهم في خضم كل ذلك الفشل وانعدام الاستقرار لا يريدون أن يفقدوا ذلك الشعور بالرضا عن النفس واستبداله بالسخط، هم الذين عاشوا طيلة عمرهم متشبعين بما سقاهم الإعلام إياه عن الدور الريادي، والبلد المحوري وبناة الأهرام الخ، لذا لن يعترف النظام بأن مشاكل الكهرباء نتيجة للفشل وانعدام الكفاءة وغياب الصيانة وسوء التخطيط، فالأسهل والأفضل البحث عمن يلصقها به، وليكونوا الإخوان.
شراء الوقت، هذا هو لب الموضوع، النظام يحاول شراء الوقت ريثما يكتشف نفسه فيعرف ما هو وأين يريد أن يتجه بالضبط، وأثناء ذلك فليلجأ إلى إعطاء الناس الوعود والآمال وخلق عالم من الأحلام والمنجزات المنبتة الصلة بالواقع، لن تكون بالمرة الأولى فقد فعلناها وغيرنا من قبل.
في حرب 67، تلك الهزيمة الساحقة التي أعدنا تعميدها تحت مسمى ملطف «نكسة»، كان المذياع يزف للناس بشرى إسقاط مئات الطائرات، ولم يكن أحد ليتجرأ أن يواجه زملاءه بأدنى بادرة شك عن الأرقام، لأنهم ربما انهالوا عليه ضرباً بالأحذية، حتى ظهر الزعيم وأخبرهم بالحقيقة.
لا أعلم مدى الجدوى الاقتصادية لمشروع القناة الجديدة ذاك (وإن كنت أتشكك في أنه سيعيد خلق مصر كما يزعمون) إلا أنني عاصرت «جهاز الكفتة» الجبار وقد آليت على نفسي أيضاً في مقالٍ سابق بأنني لن أصفق حتى أرى الطحن، كما أرجو ألا نفيق على كارثة، سأتحمل الجعجعة وأنتظر، فقد صبرت ستة أشهر على جهاز الكفتة حتى تبخر، ها هم الآن يعدوننا بأننا سنرى القناة التي ستغير الموازين بعد سنة، تمنياتي الحارة بالتوفيق إذن وموعدنا العام المقبل أحيانا وأحياكم الله.
٭ كاتب مصري
د. يحيى مصطفى كامل
انك على طريق التوبة من معادات الديموقراطية.
اقولها وما انا باخواني
اليس من الحكمة في نظام جديد جاء على هضبة من الجثث ان بيسأل رأس النظام عن مشروع صباع الكفته حتى يصدقه الناس فيما هو اتي بعد.
ايام سودة جاية على دماغ الانقلاب!!
الانقلابيين خططوا فقط للانقلاب ولم يخططوا لما بعد الانقلاب !!
لذا هم فى غيهم يعمهون.
الانقلابيين لا يفقهوا شئ فى السياسة ولا فى الاقتصاد ولا حتى فى العسكرية!!
هم فقط عايزين يردوا الجميل لكل من ساند ودعم الانقلاب ( سعودية ، إمارات، ودولة العدو) وكما قال السيسي فى خُطبة من خُطَبة العَصماء …
إحنا مش ممكن ننسى ابداً ولا يمكن ننسى ابداً وقفتكوا معانا!!