اعتمدت إسرائيل منذ نشأتها في أيار / مايو 48 على ركائز أساسية لاستمرارها كدولة غير طبيعية على حساب الشعب الفلسطيني ووطنه الوحيد فلسطين، ومن الركائز، الاعتماد على حليف قوي في إطار العلاقات الدولية فضلاً عن جذب مزيد من يهود العالم إلى فلسطين المحتلة وطرد أصحابها الأصليين.
هواجس الحكومات الإسرائيلية
ثمة هواجس لاحقت الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة ومراكز البحث الإسرائيلية،وفي مقدمتها الهاجس الديموغرافي بفعل الزيادة الطبيعية العالية بين العرب الفلسطينيين، ناهيك عن استمرار الكفاح الفلسطيني بوسائل مختلفة لمواجهة سياسات إسرائيل العنصرية التي طالت الحجر والبشر على امتداد الوطن الفلسطيني وفي الشتات القسري. ولهذا عقد معهد الدراسات الإستراتيجية الإسرائيلية منذ عام 2000 ثمانية عشر مؤتمراً بغية فحص المناعة في «إسرائيل».
وقد أسس لذلك المؤتمر مستشار الأمن القومي السابق الجنرال عوزي أراد، بعد فشل مؤتمر كامب ديفيد لـ «السلام» مع الفلسطينيين في صيف العام المذكور، والغرض الرئيسي من مؤتمر هرتسيليا الدوري مراجعة السياسات الإسرائيلية للعام السابق، وتحديد السياسات الممكنة للعام القادم ومراحل أخرى قادمة قد تمتد لخمس سنوات أو لعشرين عاماً، وتبعاً لذلك تعتبر استخلاصات وتوصيات مؤتمرات هرتسيليا الدورية بمثابة نقطة ارتكاز مهمة تعتمد عليها الحكومات الإسرائيلية عند اتخاذ قرارات إستراتيجية في مستويات الأمن والسياسة والاقتصاد والعلاقات الدولية والمفاوضات ومساراتها أيضاً ناهيك عن قرارات الحرب بعد توصيف الأخطار التي تهدد «إسرائيل».
مكامن القوة والضعف
في الجانب العملي، يحضر المؤتمر الإسرائيلي السنوي في هرتسيليا رؤساء حكومات إسرائيلية سابقون ورؤساء هيئة أركان، إضافة إلى رؤساء دولة سابقين، وإستراتيجيين وقادة عسكريين وأكاديميين من الجامعات الإسرائيلية المختلفة. وقد بحثت مؤتمرات هرتسيليا الثمانية عشر خلال الفترة الممتدة بين الأعوام (2000 -2018) في قضايا يعتبرها أصحاب القرار في «إسرائيل» إستراتيجية.
وكان الهاجس الديموغرافي العربي من سلم أولويات تلك المؤتمرات، حيث سجلت توصيات، للحد مما تعتبره «إسرائيل» مخاطر مستقبلية على هويتها اليهودية؛ ولهذا تمً إصدار قوانين إسرائيلية عديدة تمنع التزاوج بين أفراد من الأقلية العربية الفلسطينية داخل الخط الأخضر مع أقرانهم في الضفة الغربية وقطاع غزة، وذهبت المؤسسات الإسرائيلية إلى أبعد من ذلك محاولة ترسيخ فكرة يهودية «إسرائيل»، وقد عززت تلك التوجهات استطلاعات للرأي جرت في المجتمع الإسرائيلي خلال السنوات الأخيرة، أظهرت أن نسبة كبيرة منها تؤيد طرد الأقلية العربية.
واللافت أن غالبية مؤتمرات هرتسيليا ناقشت في محاورها مكامن القوة والضعف في الجيش الإسرائيلي، وتمً تسجيل نتائج وتوصيات من أجل سد الثغرات وتحديث الجيش الإسرائيلي على الدوام كونه الذراع الأهم للحفاظ على الأمن الإسرائيلي في الدرجة الأولى، حيث تطبق «إسرائيل» مقولة موشيه دايان الذي شغل منصب رئيس الأركان ثم منصب وزير الحرب والتي مفادها «إن إسرائيل ليست لديها سياسة خارجية وإنما سياسة دفاعية فقط»،أي أنه عوضاً من أن تكون الإستراتيجية الشاملة في خدمة تحقيق أهداف السياسة الخارجية، كما هي الحال في معظم دول العالم، فإن «إسرائيل» تضع سياستها الخارجية في خدمـة استراتيجيتـها الـشاملة أو مفهـومها الأمني.
ومن الأهمية الإشارة إلى أن انعقاد مؤتمرات هرتسيليا تزامن مع بروز مصطلح يهودية الدولة الإسرائيلية في السنوات الأخيرة بوتيرة متسارعة، وذلك على الرغم من أنه ليس حديث العهد.
وقد حاولت توصيات مؤتمرات هرتسيليا المنعقدة منذ عام 2000 وحتى أيار / مايو من العام الحالي 2018 ترسيخ فكرة يهودية «إسرائيل»، حيث كانت الفكرة المذكورة إحدى ركائز الفكر الصهيوني، وبغض النظر عن أن درجة هذه اليهودية وبعض مضامينها قد كانت مثار جدل بين تيارات معينة في الحركة الصهيونية، فإن هذا الزخم الكبير لهذه المقولة والذي توج بإصدار قانون القومية أخيراً، يعتبر بحد ذاته عاملاً جاذباً ليهود العالم وخاصة بعد تراجع أرقام الهجرة إلى فلسطين المحتلة خلال العقد الأخير.
وقد بحثت مؤتمرات هرتسيليا أيضاً أوضاع الاقتصاد الإسرائيلي وأهم أزماته من بطالة وديون وتضخم، وأوصت غالبيتها بآليات عمل وتبني سياسات محددة للخروج من الأزمات التي يعاني منها الاقتصاد الإسرائيلي أو الحد من تداعياتها على المجتمع الصهيوني، وذلك بغية تحقيق معدلات رفاه اجتماعي واقتصادي مرتفعة ترقى إلى معدلات النمو السكاني الإسرائيلي من جهة وتحافظ في نفس الوقت على عوامل جذب المزيد من يهود العالم إلى الأراضي المحتلة في ظل جفاف العديد من منابع الهجرة اليهودية في أمريكا ودول الاتحاد الأمريكي وكندا.
العصر الذهبي
ويمكن القول أن مفهوم القرار السياسي بالنسبة لإسرائيل وعلاقته بالاقتصاد هو مفهوم مختلف عن المفهوم التقليدي، إذ أن القرار السياسي هو الأساس وبقية الأمور وخاصة الاقتصاد في خدمته، حيث يتبوأ القرار السياسي في إسرائيل الدور المركزي الذي من المفترض أن يحتله الاقتصاد.
وفي هذا السياق يمكن الجزم أن السياسات الإسرائيلية في مستويات السياسة والأمن والاقتصاد يجب أن تخدم الإستراتيجية العليا وفي المقدمة منها تعزيز فكرة يهودية الدولة، حيث أصبح واضحاً أن مصطلح يهودية الدولة يمثل في السنوات الأخيرة جوهر ومضمون الغايات والأهداف الكبرى لـ»إسرائيل»، وتحولت مقولة الدولة اليهودية بصورة غير مسبوقة ولا معهودة إلى القاسم المشترك بين مختلف التيارات والكتل والأحزاب والاتجاهات السياسية والاجتماعية والثقافية في «إسرائيل» على حد سواء.
ولم تخرج توصيات مؤتمرات هرتسيليا عن المألوف في النتائج والتوصيات المتعلقة بالحفاظ على امن «إسرائيل» في الدرجة الأولى، لكن اللافت أن مؤتمر هرتسيليا الثامن عشر، المنعقد في أيار / مايو الماضي قد توصل إلى استخلاصات جوهرية مفادها أن «إسرائيل» تعيش عصرها الذهبي في فترة استقرار لم تشهدها منذ إنشائها قبل سبعين عاماً وسط دعم أمريكي غير مسبوق، حيث أوضح مدير مركز أبحاث الأمن القومي الإسرائيلي والقائم على المؤتمر «أودي ديكل» أن ملخص النقاشات التي جرت في المؤتمر تشير إلى أنه لا يوجد تهديد وجودي على «إسرائيل» في الوقت الراهن خلافاً للسنوات السابقة. ولهذا اعتبر الاستخلاص المذكور مقدمة لترسيخ فكرة يهودية دولة الاحـتلال بعـد قوننتها.
ويبقى القول أنه مع استمرار الكفاح الفلسطيني بأشكال ووسائل مختلفة، ستبقى مناعة دولة الاحتلال الإسرائيلي هشة رغم سياساتها العنصرية تجاه الشعب الفلسطيني الذي يبتكر يومياً طرق كفاحية جديدة، من شأنها مقارعة الاحتلال ودحره في نهاية المطاف، وسيعزز هذا الاتجاه تمركز (80) في المائة من الشعب الفلسطيني داخل وطنه فلسطين وحولها في دول الجوار الجغرافي العربية.
كاتب فلسطيني مقيم في هولندا