منذ كانون الأول/ديسمبر من العام الماضي عندما اتفق الرئيسان الأمريكي والصيني على تعليق الحرب التجارية والبدء في مفاوضات للتوصل إلى صفقة تتيح للولايات المتحدة تصحيح عجزها التجاري مع الصين، جرت مياه كثيرة في نهر المواجهة الأمريكية-الصينية التي تلقي بظلال قاتمة على فرص النمو العالمي. وقد بلغ التوتر بين البلدين ذروته بانهيار تلك المفاوضات، وفرض عقوبات أمريكية جديدة على ما قيمته 200 مليار دولار من وارداتها من الصين.
التدهور لم يتوقف عند ذلك الحد، وإنما شهدت الأيام الأخيرة تصعيدا خطيرا على مستوى التصريحات الصادرة عن الرئيس الأمريكي الذي أعلن عزمه فرض رسوم جمركية انتقامية على ما تبقى من واردات الولايات المتحدة من الصين ولم يخضع بعد لرسوم جمركية إضافية (حوالي 300 مليار دولار). وتسببت تصريحات ترامب في انتشار أنباء في بكين بأن الرئيس الصيني شي جين بينغ قد لا يشارك في قمة مجموعة العشرين في أوساكا (اليابان) التي تعقد في 28-29 من الشهر الحالي.
وقد اندهش كثيرون عندما وصف الرئيس الصيني شي جين بينغ نظيره الأمريكي قائلا: “صديقي ترامب” في حفل عشاء رسمي خلال زيارته الأخيرة لروسيا في الأسبوع الأول من الشهر الحالي. ومع أن هذا الوصف يضع الرئيس الأمريكي في مكانة أدنى من فلاديمير بوتين الذي وصفه بينغ بـ “أحسن أصدقائي” إلا أن هذه الإشارة كانت رسالة إيجابية إلى الأطراف الدولية المختلفة (من بينها اليابان) التي تحاول التوسط لفرض حالة جديدة من التهدئة، وتسعى لترتيب لقاء رسمي بين الرئيسين الصيني والأمريكي في قمة مجموعة العشرين. الرئيس شي أراد أن يقول إن الصين هي الأخرى راغبة في التهدئة وتجنب التصعيد. ويتفق الكثير من زعماء أوروبا وآسيا وقيادات البنك الدولي وصندوق النقد ومنظمة التجارة العالمية، على أن التوافق الأمريكي الصيني يمثل ضرورة لا غنى عنها لضمان تحقيق نمو مستقر في العالم.
حلم استمرار السيطرة الأمريكية
وبينما السياسة الأمريكية تنطلق من خندق الدفاع الذي تتحصن فيه القوة الأعظم القديمة، فإن السياسة الصينية تتقدم من ساحة الانطلاق لقوة عظمى صاعدة، تطلب لنفسها مكانة أعلى في العلاقات الدولية. وبين القوة الأعظم القديمة، والقوة العظمى الصاعدة، يعيش العالم مرحلة صعبة مليئة بالقلق، وعدم اليقين، والشكوك المتبادلة بين القوى المختلفة.
وتدعو الصين بوضوح إلى “ديمقراطية القيادة” في النظام العالمي. كما طلبت من الولايات المتحدة الكف عن السياسات الاستفزازية التي من شأنها إثارة التوتر بين البلدين. وخلال لقاء جمع الرئيسين الصيني والأمريكي على هامش قمة العشرين في بوينس أيريس في كانون الأول/ديسمبر الماضي، تضمن الإتفاق بينهما أربع مسائل رئيسية هي التهدئة التجارية، والتزام الولايات المتحدة بمبدأ الدولة الصينية الواحدة، وهو ما يعني تقليص علاقاتها مع تايوان وأن تكف عن تشجيع القوى الإنفصالية هناك، وأن تتعهد الصين بمساعدة الولايات المتحدة في الحوار مع كوريا الشمالية، إضافة إلى بعض الصفقات المالية في مجالات الإستحواذ التكنولوجي المتعثرة بسبب الخلافات بين البلدين، والتي كان مركزها شركة كوالكوم الأمريكية للتكنولوجيا والاتصالات.
ولم يكن انهيار المفاوضات التجارية إلا واحدا من أعراض فشل اتفاق الأرجنتين، لأن الولايات المتحدة صعدت حملتها ضد الصين في كل القضايا موضوع الاتفاق، خصوصا بعد فشل قمة ترامب- كيم يونغ-أون الأخيرة في فيتنام. المفاوضون الصينيون كشفوا النقاب أخيرا عن أن الجانب الأمريكي كان يطالب بتنازلات تلو التنازلات، فإذا وافق الصينيون طلب الأمريكيون تنازلات أكثر، وهو ما أدى إلى فقدان الثقة بين الطرفين.
وعلى الرغم من أن كثيرين ينتظرون قمة العشرين لتحقيق نتائج إيجابية، فإن المواجهة بين الولايات المتحدة والصين سوف تستمر، لأن جذورها عميقة، ومستوياتها متعددة، ومجالاتها واسعة ومتشعبة. ومع ذلك فإن مسار الصراع لن يكون في شكل تصعيد دائم، ولكنه سيتحمل موجات من الصراع والتهدئة، مثل تلك التي نشهدها على ساحة الحرب التجارية.
لقد انتقلت المواجهة بسرعة من ميدان التجارة إلى ميدان التكنولوجيا، وأصبحت شركة هواوي الصينية للاتصالات هي المرمى الذي تستهدفه السياسة الأمريكية المعادية للصين، كما أصبحت تكنولوجيا اتصالات الجيل الخامس 5G أحد أهم موضوعات الصراع ليس بين الولايات المتحدة فقط في مواجهة الصين، ولكن بين كل الدول الموالية للولايات المتحدة في جانب والصين في الجانب الآخر.
وقد رصدت أجهزة الأمن الإلكتروني في الصين خلال الأيام الأخيرة موجة كثيفة من محاولات التسلل والهجوم من خلال الإنترنت وأنظمة تبادل المعلومات المختلفة القادمة من الولايات المتحدة، وهو ما دعا الصين إلى زيادة إجراءات الأمن الإلكتروني، وإعلان درجة عالية من التأهب لصد أي هجوم أشد في الفترة المقبلة.
الصراع بين الولايات المتحدة أكبر بكثير من مجرد الحرب التجارية، وحتى لو استطاعت واشنطن تقليل عجزها التجاري، فإنها ستظل في حالة رعب من التقدم الصيني السريع في ميادين التكنولوجيا والتسلح وتكنولوجيا الفضاء وإنتاج الروبوت وأجهزة وأنظمة الذكاء الإصطناعي، وهي جميعا أدوات التفوق في المستقبل. هذا صراع عقود من الزمن وليس مجرد سنوات.
العقود القلقة المقبلة لن تكون خالية من التوتر، كما إنها لن تكون البيئة المثلى لتحقيق النمو المستدام في العالم، إنها على الأرجح ستصطبغ بصبغة التوتر وعدم الإستقرار وربما الحروب في بعض مناطق التوتر، أو على الأقل ستمنح رخصة ممتدة لصراعات راهنة في مناطق مثل الشرق الأوسط وشمال أفريقيا وجنوب وشرق آسيا وأوروبا الشرقية وأمريكا اللاتينية.
ترامب يمثل تيارا أمريكيا
إن دونالد ترامب لم يبدأ فقط حربا تجارية ضد الصين، وإنما أشعل حربا باردة جديدة أصبحت تهدد العالم كله. وقد أشعل هذه الحرب دفاعا عن النفوذ المطلق لبلاده، التي ترى مكانتها العالمية في انحدار، ونفوذها في أفول يوما بعد يوم. ومع أن الرئيس هو الذي يتبنى بوضوح فلسفة الحرب الباردة الجديدة منطلقا من شعار “أمريكا أولا” فإن عددا من مؤسسات الحكم في الولايات المتحدة يتبنى هذه الفلسفة أيضا، خصوصا داخل الحزب الجمهوري، وفي بعض دوائر أجهزة صنع السياسة الخارجية وسياسات الأمن القومي.
ومن الواضح أن دونالد ترامب أدخل تعديلات واسعة النطاق على قيادات هذه الأجهزة، بما أدى إلى زيادة الوزن والنفوذ النسبي لمؤيدي هذه الفلسفة خصوصا في المخابرات المركزية، ووزارات الخارجية والدفاع والتجارة والخزانة. وقد أصبح من الواضح تماما أن شخصيات مثل مايك بومبيو في الخارجية، وجينا هاسبيل في المخابرات المركزية، وباتريك شاناهان في الدفاع (قائم بالأعمال حتى الآن) وروبرت لايتهايزر الممثل التجاري الأمريكي، وستيفن منوتشين وزير الخزانة، يتفقون إلى حد كبير مع فلسفة ترامب اليمنية المتطرفة، ويساعدون الرئيس الأمريكي بإخلاص من أجل تحويل هذه الفلسفة إلى سياسات قابلة للتنفيذ والإصرار على تنفيذها.
ويعتقد مفكرون أمريكيون، منهم الشعبوي اليميني ستيف بانون، وداهية الاستراتيجية هنري كيسنجر، أن الولايات المتحدة يجب أن تحافظ على قيادتها للعالم. وبينما يقود بانون حملة عالمية لنشر الفكر الشعبوي القومي المتطرف المعادي للعولمة في الولايات المتحدة وأوروبا، فإن هنري كيسنجر، القريب من إدارة ترامب وإن لم يكن جزءا منها يعتقد بقوة أن الولايات المتحدة يجب أن تستمر في التسلط على العالم، ومنع ظهور قوة عظمى تتمكن من إزاحة النفوذ الأمريكي. وقد عرض في كتابه “النظام العالمي” ملامح الوضع الاستراتيجي في العالم الآن، ودور الولايات المتحدة الذي يتعين عليها أن تقوم به لحماية مصالحها ومواصلة نفوذها.
ولذلك فإن من الخطأ الاعتقاد بأن سياسة ترامب تمثل شذوذا متطرفا، بل إنها تعكس جانبا مهما من الفكر والمصالح في الولايات المتحدة، وإن كانت أيضا تعكس انقساما حادا في المجتمع الأمريكي، بشأن مدى فاعلية وجدوى المؤسسات السياسية التقليدية والسياسات التقليدية في معالجة أفول قوة الولايات المتحدة عالميا. هذه السياسة العالمية التي يتبناها ترامب تمثل امتدادا متطرفا لتلك التي كان يتبناها الرئيس الأمريكي الأسبق جورج بوش الإبن، والتي كان مفادها “من ليس مع الولايات المتحدة؛ فهو ضدها”. ترامب أضاف إلى ذلك “من ليس مع الولايات المتحدة؛ فهو ضدها، وسيخضع للعقاب”! وهو يشمل بهذه السياسة ليس خصوم الولايات المتحدة فقط، ولكن حلفاءها أيضا.
لماذا هي حرب باردة جديدة؟
تمثل الحرب الباردة نموذجا للصراع بين قوتين أو أكثر يتم خلالها استخدام كل وسائل الصراع، باستثناء الحرب المسلحة المباشرة. وتشمل وسائل الصراع في الحرب الباردة التهديدات الدبلوماسية والسياسية، والقيود الاقتصادية، والحرب الإعلامية، وسباق التسلح، والحروب بالوكالة.
أما الحرب التجارية، فإنها تهدف أساسا إلى حماية صناعة أو عدد من الصناعات أو السوق المحلية عموما بفرض رسوم جمركية حمائية، أو تقييد دخول السلع الأجنبية إلى السوق المحلي بتدابير كمية أو إدارية، أو بحظر دخول بضائع دولة أو عدة دول تماما، أو بفرض أشكال أخرى من العقوبات التجارية التي من شأنها أن تحقق هدف حماية الصناعات المحلية. كذلك فقد تنشأ الحروب التجارية بتدابير أخرى مثل إجراءات الدعم، بهدف إغراق أسواق الدول الأخرى بمنتجات رخيصة. وتظهر آثار سياسات الإغراق بصورة واضحة في القطاع الزراعي، حيث أن الدول الصناعية في مجموعها تدعم مزارعيها المحليين بهدف تيسير تصدير منتجاتهم. وقد وقعت الدول النامية ضحية لسياسات الإغراق في القطاع الزراعي، حتى أصبحت، وعلى الأخص الدول العربية، فاقدة لإمكانات تحقيق الأمن الغذائي بسبب مزاحمة الواردات الأرخص من القمح والشعير والذرة والأرز من الدول الصناعية المتقدمة.
نحن إذن أمام ظاهرة عالمية مكتملة الأركان من حيث الأسباب والإجراءات العملية والأهداف تؤكد بقوة أن الصراع الحالي لا يتعلق بموضوع التجارة فقط، ولا يقتصر على دولة واحدة فقط، ولا تتوقف أهدافه عند تحقيق إصلاح لخلل في مجال محدد من مجالات الصراع. نحن أمام حرب باردة جديدة يتصارع فيها نموذجان سياسيان، بما فيهما من نظام اقتصادي وثقافي وقيم، في مرحلة تتراجع فيها القوة الأمريكية في العالم، وتحاول الولايات المتحدة في سياق ذلك الدفاع عن نظام أحادي القطبية تنفرد هي فيه بقيادة العالم.
خلاصة القول إذن، أن المواجهة الحالية بين الولايات المتحدة والصين ترسم ملامح حرب باردة عالمية جديدة، تغطي مجالات التجارة والدبلوماسية والثقافة والتعليم والتمويل والتكنولوجيا والصناعة والتسلح. لكن الجديد في الحرب الباردة هذه المرة أنها ليست فقط مجرد حرب بين نظامين يريد أحدهما البقاء على حساب الآخر، وإنما هي حرب من جانب الولايات المتحدة ضد الصين وروسيا وإيران وكوريا الشمالية وغيرها، من أجل ضمان استمرار قيادة الولايات المتحدة للنظام العالمي. وفي سبيل تحقيق هذا الهدف، فقد برهن الرئيس الأمريكي أنه على استعداد لفرض إجراءات انتقامية حتى ضد حلفائه (مثل ألمانيا وفرنسا وكندا واليابان والمكسيك) من أجل ضمان الالتزم بالقيادة الأمريكية للعالم.
اقتباسات
الرئيس الأمريكي أعلن عزمه فرض رسوم جمركية انتقامية على ما تبقى من واردات بلاده من الصين
السياسة الصينية تتقدم من ساحة الانطلاق لقوة عظمى صاعدة
أصبحت شركة هواوي الصينية للاتصالات المرمى الذي تستهدفه السياسة الأمريكية المعادية للصين
من الخطأ الاعتقاد بأن سياسة ترامب تمثل شذوذا متطرفا