تلقيت مؤخرا رسالة قصيرة، من ناشر يبدو مهما، في إحدى دول أوروبا الشرقية، يقول فيها: إنه قرأ إحدى رواياتي الصادرة منذ وقت قريب باللغة الإيطالية، ويطلب الموافقة على ترجمتها إلى لغته، ونشرها، بالرغم من أن الأدب العربي في بلاده، لا يحظى بأي التفات من أحد، ولا يمتلك سمعة جيدة، تتيح له أن يكون واحدا من الآداب التي ينساق الناس لمطالعتها، وغالبا ما يوجد محصورا في دوائر الأكاديميين الذين يطالعونه بغرض الدراسة فقط. وعندما سألته مندهشا، عن سر رغبته في ترجمة نص عربي، وهو يعرف أنه لن يوزع شيئا، قال انه أحب النص، وسيلزم قراء كثيرين يعرفهم بأن يقرأوه، وربما تصبح للأدب العربي سمعة طيبة فيما بعد، إذا ما ترجمت أعمال جيدة في فترة متقاربة.
كلام هذا الناشر الأوروبي، الشرقي، كان مستفزا فعلا، وبدا لي انه يقلل كثيرا من شأن الأدب العربي الذي أزعم بأنه الأدب الوحيد الذي تنتجه بلاد متعددة، ومختلفة عن بعضها، في أشياء كثيرة، لكنها تكتب باللغة نفسها، فالرواية التي يكتبها أحدهم عن الريف في مصر، ليست هي التي يكتبها آخر عن الريف في سوريا أو اليمن، بالرغم من استخدام أدوات الكتابة نفسها، وقصيدة أمل دنقل التي تتحدث عن الموت، ليست هي قصيدة درويش التي تحكي الموضوع نفسه، والأدوات هنا أيضا واحدة. بينما في أوروبا، ومع اختلاف الأجواء والمجتمعات وبعض العادات والتقاليد، من بلد لآخر، نجد اختلاف اللسان أيضا، بل ونجد عداء بعض الألسنة لغيرها، من دون سبب وجيه، وما زلت أذكر حين دخلت مطعما صغيرا في مدينة ميلانو الإيطالية، يديره زوجان مسنان، طلبت طبقا من بيتزا الخضراوات، باللغة الإنكليزية، فحملت المرأة المسنة، مكنسة ورفعتها في وجهي، وهي ساخطة من التحدث إليها بلغة غير لغتها.
المهم، أن رسالة الرجل الواضحة، الصريحة، تبين بالضبط موقع الأدب العربي، في تلك البلاد، وغالبا في غيرها، من دول أوروبا الشرقية، بالنسبة للآداب الأخرى، وتلك السمعة السيئة التي اكتسبها، مما يجعل مسألة انتشاره، أو حتى مجرد زحفه على استحياء، ليقرأ لدى قليلين، تبدو مستحيلة، وشخصيا لا أعتقد أن هناك من قارن الأدب العربي بغيره من الآداب، وألبسه سمعة سيئة بعد ذلك. إنها نظرة أساسية عمياء، لن تتغير بسهولة، ولا تشمل الأدب العربي وحده، وإنما تشمل كل ما يأتي من العرب من فنون موسيقية ومسرحية، وربما لوحات تشكيلية أيضا، ولذلك تصبح مسألة تغيير النظرات غير البريئة، والسمعة المقصود أن تصبح سيئة، مسألة صعبة كما قلت.
في أحد الأيام، حصل غابرييل غارسيا ماركيز على جائزة نوبل للآداب، فالتفت الناس كلهم إلى الأدب اللاتيني الأمريكي، واكتشفوا أن هناك دنيا ثقافية مختلفة، شبعانة، ومرتوية، ومستعدة لتمد الآخرين بالشبع والارتواء. ومنذ مدة قليلة حصل الصيني مو يان على نوبل أيضا، والآن يعيش الأدباء الآسيويون في بحبوحة من اللمعان، وسهولة العيش، فالأنظار عندهم ومعلقة بهم، وموضة القراءة في العالم، أن تقرأ للآسيويين لأن لديهم سحر الكتابة، وعظمة اللغة، والأجواء التي لن تعثر عليها في مكان آخر.. وأورهان باموق الكاتب التركي، وبجائزة نوبل التي حصل عليها في إحدى السنوات، جر القراء إلى بلاده، ليظهر بعد ذلك كتاب أتراك كثيرون، لم يقلل من شأنهم أحد، ومعروف هذه الأيام، أن الناس كلها تقرأ للكاتبة إليف شافاق: قواعد العشق الأربعون، روايتها عن جلال الدين الرومي، والدرويش شمس التبريزي، والذي لا يقرأ تلك الرواية، في نظر الكثيرين، لا يستحق أن يسمى قارئا.
ثم، وفي سنة كانت حدثا بالنسبة للعرب، حصل العظيم نجيب محفوظ، أحد أعمدتنا الكتابية، على تلك الجائزة نفسها، الجائزة التي تقدم في استوكهولم في السويد، وقيمتها المادية كانت أقل من مليون دولار، ثم تجاوزت ذلك المبلغ إلى ما بعد المليون، وقيمتها المعنوية، لا تقدر بثمن، لأن المواطن العادي البسيط حتى في آريافنا نحن العرب، يعرف ألفريد نوبل، وكفارته التي أخرجها حين صنع الديناميت.
الذي حدث أننا لم نكسب كثيرا، من خلف جائزة محفوظ. لم نجر رجل القراء وأذهانهم نحو كتابتنا، التي في رأيي لا تقل عن أي كتابة أخرى. لم يصبح أحد كتابنا، من أي جيل من الأجيال، نموذجا أخاذا يطارده القراء الأجانب، وتسعى أجيال الكتابة الجديدة، في أي مكان، لاستضافته والتعلم منه. الجائزة جاءت، وانتهى وقتها، ونسيها الناس، ولم تعد تذكر إلا حين يذكر أمر يخص الراحل الكبير، ولا جديد. كأنها ليست جائزة استوكهولم نفسها.
شيء آخر، كان يجب أن أشير إليه قبل أن ألوم الناشر الأوروبي، على نظرته ونظرة بلاده لآدابنا، وهو أننا حتى في بلادنا التي خبرناها، وكتبنا آمالها وآلامها على حد سواء، أصبح العثور على القارئ، أمرا في غاية الصعوبة. قديما كنا نتحدث عن الظروف الاقتصادية، وكيف أنها تكبل الناس في نشاطات أخرى خاصة بسبل العيش، وتبعدهم عن القراءة. الآن، صرنا نتحدث عن الفوضى التي ألمت بكثير من دول العرب، وأفقدتها نعمة الأمان والاستقرار.
من يقرأ في بلد يئز فيه الرصاص ليل نهار؟ من يقرأ في بلاد تتهدم بيوتها، وتحترق منشآتها، ويموت أطفالها بلا معنى؟
شخصيا، أصبحت أعتقد أن لا جدوى من أي كتابة نكتبها، لا جدوى من اكتساب المعرفة، وضخها في كتب، هناك أشياء أهم، وهناك الإنسان الذي لو لم ينعم بالسلم والأمان، فلن يستوعب حتى سطرا واحدا من أي كتاب، وإن كان لا بد أن نكتب، بسبب انتشار مرض الكتابة لدينا، خاصة في السنوات الأخيرة، فلنكن محليين، بعيون كلها موجهة نحو البحث عن القارئ الأصلي الآمن، والمستقر من الناحية النفسية، وليس القارئ البعيد الصعب، وربما علينا أن نخترع مثل هذا القارئ.
٭ كاتب سوداني
أمير تاج السر
أحسنت يا دكتور
لم يتح لي الوقت ان اقرا كتبك ،لكن اقرا مقالاتك الجذابة احب ان كرر كل مرة حتى لا يفوتني سطر واحد ،وددت لو اني من يوزع جائزة نوبل
أشرت دكتور للريف في أدبنا العربي. في الواقع لدينا أرياف و نسخ متعددة منها. فعرس الزين مع أنها رواية عن قرية تستحوذ القيمة النفسية على اهتمام الكاتب. بعكس الأرض التي تتكلم عن الصراع الطبقي. و بعكس الحرام ليوسف إدريس التي تعيد نشر الوعي الرومنسي بثياب اجتماعية و اشتراكية. ناهيك عن أدب محمد جبريل الذي يبدو لغويا عن الريف و لكنه موضوعيا عن المجتمع و فساد الأخلاق و تدهور الحضارة.
هذا موضوع شيق و ننتظر أن توضحه في فترة قريبة. ماذا تقصد بالريف. كيف تنظر له…