في جلسة الاستماع الأولى لها أمام لجنة العلاقات الخارجية في الكونغرس الأمريكي، قامت كوندليزا رايس الأكاديمية، التي كان قد تم اختيارها تواً لتولي منصب وزير الخارجية، بتقديم إحاطة حاولت أن تجمع فيها رؤيتها وتصوراتها المتعلقة بملف الشؤون الخارجية.
في تلك الكلمة طرحت كونداليزا رايس عدة أفكار، كان من بينها قولها، إنها ترى أن من الضروري أن تستبدل الولايات المتحدة حلفاءها القدامى بحلفاء وأصدقاء جدد. بحسب رايس التي استلمت زمام الدبلوماسية الأمريكية، في وقت شديد الصعوبة، فإن حلفاء بلادها التقليديين، تم استهلاكهم واستنفدوا أغراضهم، حتى أنه لم يعد لديهم المزيد ليقدمونه.
شغلت رايس منصب وزيرة الخارجية خلال الفترة 2005 وحتى 2009، أي قبل وقت من اندلاع أحداث الانتفاضات التي شهدتها المنطقة العربية، لكن هذه المداخلة التي قدمتها وحديثها عن ضرورة التغيير كانت في أحيان كثيرة محل استشهاد من قبل أولئك الذين كانوا يرون أن هذه الثورات ما هي إلا مؤامرة واسعة تم نسجها على مهل في دوائر صنع قرار غربية. كان لأنصار رؤية المؤامرة دائماً ما يساند تصوراتهم بشأن القدرة الأمريكية السحرية على التحكم في الظواهر الكونية، ويمكن القول إنه حتى إن لم تكن رايس قد أدلت بهذا الحديث، فإن لا شيء كان سيعفي الولايات المتحدة من المسؤولية. موقف رايس كان شديد الالتباس، وكثيراً ما كانت توضع ضمن دوائر الشك والاتهام، خاصة حين تستخدم عبارات غامضة وسهلة الإخراج عن سياقها وظرفها، كتعبيرها الشهير «الفوضى الخلاقة» الذي سينسب بسهولة إليها، رغم أنه مقتبس من كتابات أخرى ومعروف في مجال الفلسفة الاقتصادية وغيره من المجالات.
كل هذا لا يكفي دليلا على أن الأحداث العربية إنما هي محض انعكاس للرغبات الإمبريالية، فهو أيضاً لا يعني أن الدول ذات المصالح والتطلعات، وعلى رأسها الولايات المتحدة، كانت تقف من هذه الأحداث موقف المتفرّج، الذي يحرص على عدم التدخل، بل إننا نعلم جميعاً اليوم إن هذه الدول كانت قريبة جداً وحريصة على الوجود والمتابعة والتدخل متى ما لزم الأمر، وهو ما وصل بالفعل درجة التدخل الفظ في بعض الحالات التي شعرت فيها بتهديد مصالحها المباشرة. الشيء الذي يمكن أن تتباين حوله الآراء هو حدود ذلك التدخل ومدى تأثيره الفعلي على مسار الأحداث، فحتى اليوم ما تزال الحقائق تتكشف كل يوم حول طبيعة وحدود الدور الخارجي في أحداث ما يعرف بالربيع العربي، واعتقادنا أن الصورة الكاملة لن تظهر، إن ظهرت، إلا بعد عقود أو قرون، وهو أمر ليس حكراً على أحداث المنطقة العربية أو عالم اليوم، بل هو أمر يمكن تعميمه على ثورات كبرى كالثورة الفرنسية.
الإحالة إلى الثورة الفرنسية كمثال تاريخي ناجح للتغيير الجذري أمر شائع، لكن الحقيقة هي أن الغالب الأعم من المستشهدين بتلك الثورة لا يدركون بشكل واثق ما كانت عليه تلك الأحداث فعلياً. لا يعني هذا رمي أحد بالجهل، ولكنه يعني أن تفاصيل تلك الثورة ما تزال قيد الاستكشاف، وما يزال المؤرخون يعيدون بين فينة وأخرى ترتيب سرديتهم بما يتوافق مع ثوابت الأحداث التاريخية، حتى إن تناقضت مع التمنيات الشعبوية التي تراكم بعضها حتى صار أشبه في مبالغاته بالأساطير.
التاريخ وتجارب الواقع لا يجعلان من الثورة خياراً أولياً بل خياراً أخيراً يتم اللجوء إليه عندما يقفل الطغاة غيره من أبواب التغيير
لتوضيح الفكرة يمكن أن نشير إلى الوثائقي الفرنسي الذي عرض قبل وقت ليس ببعيد تحت عنوان، «بماذا نحتفل في تاريخ الرابع عشر من تموز/يوليو؟» كان ذلك الوثائقي واحداً من حلقات السلسلة الوثائقية التاريخية «ظلال شك»، التي تهدف لتسليط الضوء على أهم الأحداث التاريخية التي شهدتها فرنسا وجوارها الأوروبي. هدف البرنامج كان، كما هو واضح من عنوانه، إعادة تحليل أحداث الثورة الفرنسية، اعتماداً على ما تم كشفه من وثائق لا تحتمل التشكيك. من المعروف أن الرابع عشر من يوليو هو العيد الوطني لفرنسا، لكن سؤال ذلك الوثائقي كان حول سر اختيار ذلك التاريخ بالذات، ليصبح عنواناً للثورة الفرنسية، ومن ثم عيداً قومياً ووطنياً للفرنسيين. الإجابة التي تتبادر إلى الذهن هي أن ذلك التاريخ يوافق اليوم الذي تم فيه في عام 1789 اقتحام سجن الباستيل الذي كان يرمز للاستبداد ولتجبر الأسرة الحاكمة. يسلّط الوثائقي هنا الضوء على ذلك الانفصال والتباين بين السردية الشعبوية التي ظل يتناقلها الفرنسيون عبر العقود حول السجن الكبير سيئ السمعة، الذي يكتظ بداخله الآلاف من معارضي الملكية في ظروف قاسية، والحقيقة التاريخية المجردة التي مفادها أن هذا السجن لم يكن في الواقع سجناً، بل قلعة تاريخية لا تحوي بداخلها إلا عدداً لا يزيد عن السبعة من الموقوفين، لأسباب لا علاقة لها بالنشاط السياسي، بل تكشف الوثائق بشكل مثير أنه قد كان لدى الملك لويس السادس عشر بالفعل خطة لإلغاء هذه القلعة وتحويلها إلى حديقة مفتوحة ومتنزه للمواطنين، وهو ما وجدت خرائطه ضمن التراث الملكي المحفوظ اليوم داخل خزائن الوثائق الفرنسية النادرة. لكن إنجاح الثورة كان يتطلب خلق سردية مغايرة من أجل أن يشعر الشعب الثائر بالانتصار. الحشود الهادرة التي اقتحمت السجن المفترض عنوة، والتي وضعت إطلاق سراح المحبوسين البائسين ضمن أهدافها، لن تلبث أن تتأكد بما لا يدع مجالاً للشك أن تلك القصص الدرامية التي نمّاها الخيال الشعبي لا وجود لها، وأن غرف الاعتقال، على قلتها، كانت على عكس ما تخيّلوا مهيئة بشكل جيد ولا تقترب من بعيد أو قريب من تلك الصور التي ترسبت في أذهانهم، رغم كل ذلك فإن الجموع لن تتراجع عما ظلت تؤمن به لعقود، حيث ستتابع الحكي وتبادل القصص المتخيلة الجماعية عن المساجين المعذبين، وسيجتمع الناس بشكل صارم على رفض تحطيم الصورة الشعبية المتوارثة عن الباستيل الرهيب. هذا هو أحد الأمثلة على إمكانية وجود سرديات متباينة كثيرة لحدث واحد، وهو ما يمكن، لولا ضيق المساحة أن نورد له أمثلة أخرى من الثورات ذات التأثير كالثورة الروسية والإيرانية وغيرهما.
مع أهمية قراءة التاريخ الذي يقص علينا قصصاً كثيرة حول المسارات الثورية التي شهدها العالم، إلا أن على قارئه أن يكون حكيماً، وأن لا يسقط في فخ استسهال إسقاط التاريخ على الواقع، وهو فخ شائع يكتفي صاحبه بترديد العبارة التي يظنها كافية عن «التاريخ الذي يعيد نفسه». هذا النوع من الاستسهال كثيراً ما يكون مضراً ومجحفاً للمحللين لأنه لا يسمح برؤية الاختلافات والتباينات الدقيقة التي يميل العقل الراغب بتثبيت حقيقة «الإعادة التاريخية» إلى رفضها.
الحكمة التي نقصدها ومثلما أنها لا تعني الاستسهال أو النقل غير الواعي، فإنها لا تعني كذلك تجاهل دروس التاريخ الكبيرة والمتكررة والتي من أهمها أن الثورة، أي ثورة، لا تخلو من المفاسد والأخطار العظيمة التي لا يستطيع أحد أن يتنبأ بحدودها مهما ادعى من قدرة وقوة. هذا الدرس الذي يؤكده التاريخ وتجارب الواقع معاً هو الذي لا يجعل من الثورة خياراً أولياً عند كثير من الناس، بل خياراً أخيراً لا يتم اللجوء إليه إلا عندما يقفل الطغاة غيره من أبواب التغيير.
كاتب سوداني