استطلاع

في استطلاع للقراء، من تلك التي تزدحم بها الإنترنت عادة، وتشمل كل شيء عن الكتابة وتداعياتها، كان السؤال هذه المرة: من هو الكاتب الذي تقتني كتابه من دون أن تفكر لحظة، وبمجرد أن تلمحه على رف مكتبة، أو في معرض للكتب؟

هذا النوع من الأسئلة في رأيي، اختبار للمحبة أكثر من البحث عن الجيد والممتع لقراءته والاستمتاع به، أو اكتساب شيء من المعرفة من ورائه، هو غالبا للقراء الذين تمرسوا في العمل القرائي، إذا اعتبرنا القراءة، في حد ذاتها نوعا من العمل، أو الوظيفة، فالقارئ حين ينفق ساعات في كتاب ما، فهو يمارس وظيفة، وإن كانت وظيفة تطوعية في النهاية، لا يمنح بموجبها أجرا.

نعم لكي تجيب على هذا السؤال، لن تكون قارئا عابرا في أي صورة من الصور، من أولئك القراء الذين قرأوا كتابا مثل: “قواعد العشق الأربعون” لإليف شافاق، و”اسمي أحمر” لأورهان باموق، و”في انتظار البرابرة” للجنوب إفريقي كويتزي. وتوقفوا أو ظلوا مترددين في قراءة أعمال أخرى، هنا من الفترض أنك قرأت معظم ما أنتجته إليف شافاق، وما أنتجه أورهان باموق وكويتزي، وماركيز ويوسا، ودوستوفسكي، وألبير كامو ونجيب محفوظ، وكل كتاب العالم المعروفين، بمن فيهم الكتاب العرب الجيدين. الذي يحدث أن القارئ المتمرس، يغرم بأسلوب كاتب ما، وبالتالي يظل مهووسا به، ويطارد عناوينه في كل مكان، بغض النظر إن كانت تلك العناوين جذابة أم لا، ومحتواها إن كان شيقا وجديدا أم لا؟ ولكن بالقطع فيها أسلوب الكاتب الذي أحبه منذ قرأ له أول رواية، وغالبا سيظل يحبه باستمرار.

وعلى الرغم من أن الأعمال الإبداعية لدى معظم الكتاب ليست ثابتة في جودتها دائما وتتراوح بين الممتاز، والجيد جدا والعادي، فإن ذلك لا يخيف عشاق الكاتب، ولا يبعدهم عن الاستمرار في متابعته، وقد يدافعون عن أعمال يراها غيرهم هشة، وقد يصعدون بتلك الأعمال الهشة درجات كبرى في التنويه بها بوصفها من الأعاجيب، وكتابة مراجعات مثالية لها في مواقع تقييم الكتب المعروفة، حيث تعثر على مثل ذلك الهوس، وهوس آخر في كراهية كاتب ما، حين تجد من يهاجمونه بلا أي مبرر.

أذكر في بداية تعرفي إلى عالم غارسيا ماركيز، وقبل أن أتعمق في الكتابة، حين قرأت رواية “أحداث موت معلن”، تلك الرواية القصيرة الغريبة، وكنت اقتنيتها من مكتبة في دمشق في زيارة قمت بها لسوريا، بالطبع قبل أن تتوعك هذا التوعك الكبير بسنوات طويلة، أذكر أنني انغمست في الرواية منساقا إلى عوالمها، ومنبهرا بذلك الحكي المترف في الشد، وكيف أنك تتشوق لقراءة قصة مكشوفة من الأول، وينبغي أن لا تكون مشوقة، وقد فاتني جراء ذلك الانغماس، كثير من ضروب البهجة في الشام، وكانت ثمة حفلات لمغنين مخضرمين وندوات ثقافية، وتأكد لي منذ ذلك الصيف أنني مغرم فعلا بماركيز، الذي ظللت أقرأ أعماله حتى توقف عن الكتابة، وكان فيها الجيد والمبهر بالطبع، وفيها العادي أيضا، فقط تظل في مجملها أعمالا فيها بصمة كاتب أحببته وما زلت أحبه.

 أذكر أنني تحدثت مرة عن روايته الصغيرة، التي اعتبرتها عادية، وأعني: “ذكرى غانياتي الحزينات” التي تدور أحداثها في بيت لامرأة عجوز، فيه فتاة نائمة، ويأتي عجوز في التسعين يوميا، ليسهر قربها، يراقب نومها وتقلباته، وكوابيسه، إنها ليست رواية سيئة أبدا، لكن قد تكون أقل إبهارا من معظم الأعمال الأخرى، أيضا رواية “إيرنديرا الغانية” وجدتها، وكانت عظيمة في وقت ما إلا أن إعادة قراءتها في الوقت الحالي لن تعطيها تلك العظمة القديمة، وأظن من حبي لماركيز، ظللت أقرأ كتب مقالاته، بالحماس نفسه الذي أقرأ به رواية..

التركي أورهان باموق، تعرفت إلى عالمه الجميل في رواية “ثلج” الضخمة التي ترجمها الراحل عبد القادر عبد اللي، وناقشت قضية الحجاب في تركيا، مع قضايا أخرى حيوية، ثم بدأت أجمع أعماله، بعد ذلك وإلى الآن أقرأ كل ما أجده له، وستنطبق إجابتي على الاستطلاع إن أجبت عليه، على أورهان باموق كما انطبقت على ماركيز منذ زمن طويل: كاتب أقتني أعماله بمجرد رؤيتها على رفوف المكتبات أو معارض الكتب أو حين تظهر في المتاجر الإلكترونية.

بالنسبة للقراء الذين ينتظرون قوائم الجوائز كل عام، ويقرأونها فقط، من دون الالتفات للإنتاج الإبداعي الآخر، الذي قد يكون أفضل من تلك القوائم: هل يمكن أن نعتبرهم قراء متمرسين، أو قراء يمكننا أن نثق في انتمائهم لقبيلة القراءة؟

في رأيي ليس كثيرا، لأن الشيء الذي ينبغي معرفته في هذا الموضوع، هو أن اختيارات الجوائز، هي اختيارات حكام، يحملون تذوقا معينا، أو انحيازا لأسلوب ما دون الأساليب الأخرى، والقارئ الجيد لا ينتظر أن تعلن قائمة ليطارد محتوياتها، عليه أن ينتمي لحيز ما، لأسلوب ما، لبصمة كتابية يتبعها، من دون أن يغفل عن ما في المكتبات من فن، تجاهلته الجوائز.

شيء أخير، وهو الأحوال الاقتصادية السيئة التي تمر بالعالم، خاصة عالمنا العربي، حيث نجد في كل بلد شكاوى، وشروخا، ومطاردة للرزق، مما يبعد الناس عن اقتناء الكتب، حتى لو كانوا قراء جيدين، ويرغبون حقا في القراءة الصحيحة.

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول أفانين كبة - كندا:

    بدأت أقرأ روايات الصحفية والكاتبة مي منسى فقط من بعد رحيلها ، ولحد الان قرأت لها ستة روايات ، ووجدت فيها كل الابداع والجمال من عمق انساني وبتفاصيل دقيقة ، كذلك اللغة العربية واسلوب السرد فيها رائع جدا حيث يجعلني أتوقف وأتمعن في كلماتها وأعيد قراءتها ، ووجدتها انها كانت فعلا تكتب من اعماق قلبها ولم تكن تبحث عن الشهرة ولا عن المال ، وتمنيت لو كنت قد قرأت لها سابقا وتواصلت معها لأنها جعلتني انظر للحياة بزاوية جديدة . نعم هنالك كتب تلامس قلوبنا و أرواحنا ونصبح مهوسين بها .

  2. يقول أسامة كليّة سوريا/ألمانيا Ossama Kulliah:

    صحيح وسلمت يداك ياأخي أمين تاج السر. أنا قارئ انتقائي وأقرأ ماأراه يستحق من وجهة نظري الشخصية طبعاً, ولاأهتم لا بالجوائز ولابنصائح الأصدقاء والكتاب والصحفيين. لكن المشكلة أيضاً, هناك كتب (عربية) أريد أن أفتنيها لأقرأها وما يمنعني هو الأسعار العالية لطلبها (وليس سعرها الأصلي!) عبر الانترنت.

إشترك في قائمتنا البريدية