بالنظر إلى تحول النظام الدولي إلى النظام العالمي، ومن نظام ما بين الأمم إلى نظام عبرها بفعل أشكال العولمة المختلفة التي نقلت سلطة الدولة وشرعيتها إلى مجموعة من المؤسسات الجديدة فوق القومية، الأمر الذي أفضى إلى تراجع دور الدولة القومية، وتقلص طابعها السيادي في المجالات السياسية والاقتصادية، يصدق التكهن القديم الجديد بأن جوهر بنية السلطة الجديدة يكمن في المنظمة الدولية، وفي التكنوقراطيين الذين يديرونها.
وإن كانت السيادة الوطنية تعني في شكلها العام السلطة العليا غير المجزأة التي تمتلكها الدولة لسن قوانينها، وتطبيقها على جميع الأشخاص والممتلكات ضمن حدودها، فإن هذه السلطة انزلقت أكثر فأكثر من أيدي الدول القومية إلى أيدي المؤسسات الدولية العامة والخاص، بذلك خسرت الدول قوتها بالتدريج لصالح منظمات دولية تخدم أجندات الدول الكبرى الراغبة في الهيمنة على الصعيد العالمي، وبعبورها الحدود الدولية، عملت الاستشارات الاستراتيجية الكونية المختلفة، الاقتصادية والسياسية والعسكرية والثقافية والاتصالية، التي يسميها عالم الاجتماع النرويجي يوهان غالتونغ «بنتاغون الامبريالية» أو»النجمة المُخمسة للاحتكارات عابرة القومية» على تمزيق أوصال البنيان السياسي والاجتماعي للدول القومية وتقطيعها وتفتيت تماسكها.
فبالقدر الذي تتجاوز فيه الشركات متعددة الجنسيات الحدود القومية فإنها تستهلك البنية الاجتماعية والسياسية للدولة القومية، وتهتكها وتدمر تماسكها.
بالقدر الذي تتجاوز فيه الشركات متعددة الجنسيات الحدود القومية فإنها تستهلك البنية الاجتماعية والسياسية للدولة القومية
من هنا لا تتعهد الحكومات الإمبريالية مصالح بورجوازيتها الداخلية فقط، بل تتعهد أيضا مصالح رأس المال الإمبريالي المهيمن، ومصالح رؤوس الأموال الامبريالية الأخرى في ترابطها داخل عملية التدويل. بهذا المعنى، العولمة المتوحشة وإن كانت في رأي نيكولاس بولانتزاس لا تنسف الشكل الحقوقي الدولي لكيان الدولة الأمة، فإنها تؤثر تأثيرا عميقا في سياسة الحكومات وتنظيماتها. وبذلك تتغير الدولة مع احتفاظها بشكلها من جهة ما يحصل من ريبة وشكوك حول التصور القانوني للسيادة الوطنية، في حال تفريغ الدولة من مضمونها السيادي، بفعل مؤسسات فوق حكومية أو نواة دولة فوق وطنية، ومثل هذا النظام الدولي الذي فَرض على الدولة القطرية «التقومن السيادي» في حدودها «المصطنعة» هو ذاته في طور تحوله إلى «نظام عالمي» ينزع سلطاته السيادية، ويضعف نفسه في سياق إضعافه للدول في تشكيلاتها القُطرية. وضمن اتجاه مناهضة العولمة ومعارضة الليبرالية الجديدة السائدة على نطاق عالمي باعتبارها، في غياب استراتيجيات التعامل والمواجهة، لا يمكن أن تنتج سوى ما نراه حاليا، قدّر سمير أمين وفرانسوا أوتار ومحمد جمال باروت وغيرهم مسألة خصوصية الصراع الاجتماعي في مناطق محددة من العالم، في سياق ربط تلك الخصوصيات بالمجرى العام لمناهضة الليبرالية الجديدة، وضرورة التعبئة العالمية لدعم واقع الصراع في المنطقة العربية. وإن كانت الدولة القطرية الراهنة في رأي باروت تستطيع أن تعيق عملية العولمة «في نطاق محدود» ما لم تتحول إلى طرف في فيدرالية عربية حقيقية يمنحها وظائف سيادية، ضمن منشود التكامل العربي الممكن عمليا.
وتزداد آفاق الاندماج القومي العربي إلحاحا ضمن ثنائية الدولة والسيادة في عصر «العولمة» عندما تكسر الأخيرة احتكار الدولة لأجهزة الإعلام والاتصال والتربية، وبحكْم ضغوطها المتزايدة لتحرير الاقتصاد من الضبوط الحكومية الوطنية وضغط أجهزتها المالية والاقتصادية الدولية باتجاه الخصخصة، فإنها تجرد الدولة القطرية من أداتها الأساسية في تحقيق «التكامل الاجتماعي» وهي أداة «القطاع العام». فتصبح في سياق تلك الضغوط المختلفة غير قادرة على أن تسيطر على «مفعولات عملية التعبئة الاجتماعية» الضخمة التي قامت بواسطة إنشائها لما يسمى بالاقتصاد الوطني. وبفعل القطاع العام الذي مكنها من اختراق البنية الاقتصادية الاجتماعية والتحكم بها، وتشكيل طبقات وشرائح اجتماعية جديدة تشكل قاعدة لها تجد الدولة القطرية نفسها إما في وضعية «مقاومة» ضغوط المؤسسات الدولية، ما يفضي بها إلى الإفلاس، أو في وضعية «الرضوخ» لها في ما يعرف ببرامج الإصلاح الاقتصادي التي تمليها المؤسسات المالية العالمية المانحة، المتمثلة أساسا في البنك الدولي وصندوق النقد، ما يؤدي بها إلى مواجهة توترات اجتماعية حادة كالتي تجري تباعا في أكثر من بلد عربي وخاصة دول ما عُرف بالربيع العربي.
وفق هذه المعايير أصبحت الدولة القطرية مفرغة من جوهرها السيادي، عندما يرتهن اقتصادها «القومي» المدول بآليات العولمة، وبهذا تخطو الليبرالية الجديدة خطوات شبيهة بما قامت به الكولونيالية، من استعمار العالم ونهب ثرواته، باسم نشر الحضارة والتمدن، فهي أيضا عبر «عسكرة العولمة» وتنامي نزعات التسلح، كرست الاحتلال الاقتصادي واضطهاد أمم بأكملها، وتسليع الحاجات الإنسانية بالنزوع نحو المادية المطلقة وتدمير البيئة وضرب الفئات الاجتماعية الوسطى، من جهة ما أنتجته من استقطاب للثروة ساهمت في تدهور أحوال العمال والفئات الواسعة من الشعوب. وإلى الآن مازال الشمال يسعى بتفوقه التقاني والعلمي إلى السيطرة على الجنوب ثقافيا وتربويا واجتماعيا واقتصاديا، وفي كل مرة يصدر دعوات كاذبة للحوار الحضاري والمساعدة على التنمية الشاملة التي من شأنها تحقيق الرفاه للجميع، ولكن الحقيقة عكس ذلك، فمشروع هيمنة رأس المال الأمريكي والغربي عموما يواصل استعمار الدولة النامية والضعيفة ويفككها من الداخل، ويمزق روابطها الممكنة تجاه أمتها.
وفي واقع التفكك تترسخ جذور الانقسام الوطني، ويزداد الاستقطاب الايديولوجي حدة، ولا يمكن في المُحصلة النهائية الحديث عن مجتمع عالمي جامع في ظل النظام العالمي الجديد، الذي تقدم في سياقه القوى الكبرى خطابا مخاتلا، يعلن عن حوار الثقافات وحوار الحضارات والأديان، ولكنه يغلب نزعة الاستفراد بالشأن الدولي ثقافيا وسياسيا واقتصاديا.
كاتب تونسي