الرواية الهجينة

■ في البدء يجب التأكيد على أن هذه المقالة، لا تتصدى لظاهرة تداخل الأجناس الأخرى مع الرواية، بوصفها نوعا سرديا قادرا، على استيعاب أجناس فنية متباينة ضمن بنيته التكوينية، كون أن قضية (نقاء الأجناس) أصبحت قارة معروفة، وذات دلالة جمالية معبرة عن سرديات العصر الحديث، على الرغم من الخلاف الواسع الذي ترسخ نتيجة التحولات المعرفية، بين المدرسة الكلاسيكية منذ أرسطو وهوراس، كونها اعتقدت بضرورة النقاء وأهميته، والمدرسة الكلاسيكية الجديدة، التي حاربت هذا المعتقد بشراسة وقد تبعتها بذلك المدرسة الرومانسية، لتؤكدا قضية التهجين واختلاط الأجناس، فكان ذلك أساسا انطلق منه التفكير الأدبي في ما بعد.
والحقيقة أنه سواء أكان الأديب المعاصر مؤمنا بظاهرة النقاء أو التهجين، لا بد من أن يكون واعيا بتحولات النظرية الأدبية، وما فيها من تفرعات، تنطلق من الصنف، الذي يتعامل معه وهو الأدب، ما يساعد على معرفة الجنس وقوانينه الجمالية، وصولا إلى النوع ثم الشكل، بمعنى آخر، ثمة ضرورة جادة تفرض على الأديب ـ الروائي هنا ـ أن يكون مدركا للصنف المعرفي من الجماليات التي يكتب بها، وهو الأدب وقوانينه المتخيلة، ثم بعدها سيدرك الجنس الأدبي المنبثق منه وهو السرد، وهذا ما سوف يجعله ملما بخصوصية النوع ممثلا بالرواية، ما يحدد وعيه لإدراك أهمية الشكل على مختلف تنوعاته وموضوعاته وتركيباته، التي تصل إلى التباين الكبير، الذي أنتج ما يعرف اليوم في النظرية السردية بأنماط الرواية، بدءا بالرواية العاطفية والاجتماعية ورواية الفرسان، مرورا بالواقعية والتأريخية، وصولا إلى أشكال معاصرة تمثلت برواية الحداثة وما بعدها.
من هذا المنطلق بدأ الوعي الكتابي المعاصر، بتكوين رؤية مختلفة متأثرة بظاهرة التهجين الجمالي، فغدا متشككا إزاء فكرة التوحد والنقاء والتسلسل والدوام والإضافة، ضمن علاقة أي جنس فني بالأجناس الأخرى، أي نبذ فكرة القطيعة التي تأسست قديما؛ بحثا عن مغايرة في الوعي الكتابي ودرجته البنيوية، لكن هذا التشكيك لم يقتصر على علاقة الرواية بالأجناس الأخرى فقط، بل تعداه ليصل لعلاقة الشكل الواحد النقي للرواية، بالأشكال الثانية المختلفة حسب البنية والموضوع، وهو ما سبق أن بينته في مقال سابق بعنوان «كيف نكتب رواية ناجحة؟»، عندما أكدتُ فيها بأن نمط الرواية يتحدد من خلال ثلاثة أقانيم ثابتة، فأما الثيمة الأساسية التي يبنى عليها المضمون، أو العنصر الفني أو البناء السردي ضمن علاقته بالرؤية التجديدية، لاسيما بروايات الحداثة وما بعدها، من هنا يمكنني القول: إن الوعي الكتابي لم يَعُد قانعا بدرجة خطية واحدة، يتحدد منها نمط الرواية، وفق التقسيمات المعروفة منذ بزوغ فجر الرواية وشيوع زمنها، بل راح يصهر هذه الأنماط جميعا أو أغلبها بحسب رؤية الكاتب بوعي/لاوعي ، لينتج نمطا هجينا مغايرا من الرواية، تذوب داخله أنماط كثيرة، للوصول إلى شكل جديد يحتفي بتلك الأقانيم جميعا، رغبة في المقاطعة والتغيير والتجديد، شكل/نمط سأسميه هنا بـ (الرواية الهجينة) لكي أميزه عن غيره من أنماط الرواية الأخرى، ولكن كيف يتم ذلك؟ ووفق أي مفاهيم نصية؟

بدأ الوعي الكتابي المعاصر، بتكوين رؤية مختلفة متأثرة بظاهرة التهجين الجمالي، فغدا متشككا إزاء فكرة التوحد والنقاء والتسلسل والدوام والإضافة، ضمن علاقة أي جنس فني بالأجناس الأخرى، أي نبذ فكرة القطيعة التي تأسست قديما؛ بحثا عن مغايرة في الوعي الكتابي ودرجته البنيوية.

ولكي تجيب المقالة على هذين الاستفهامين، لابد من اللجوء لمثال تجريبي لكي تقرب الفكرة النقدية التي تبتغيها، ففي رواية «ظلال جسد ضفاف الرغبة» للروائي العراقي سعد محمد رحيم، مثال واضح على طبيعة الرواية الهجينة التي أنتجتها السرديات المعاصرة، لما فيها من تداخل لأنماط مختلفة من الرواية، مثل: رواية الجريمة والرواية البوليسية والرواية الواقعية والروية التأريخية ورواية الميتافكشن، إذ تنطلق الرواية بسرد ذاتي لذاكرة الشخصية المركزية وراويها (علاء البابلي)، وهو يسرد روايته المكتوبة بوعي أدبي، عما حصل له ولمجموعة من الأشخاص، في أثناء علاقتهم بإحدى النساء على طريقة الرواية داخل الرواية، لتبدأ سمات شكل الرواية البوليسية، وما تتضمنه من حبكات قتل غامضة مع أول شخصية يشير لها الراوي/المؤلف، وهي شخصية (رواء العطار)، التي أوقعته ومَن معه بلعبة خفية أدت إلى قتل هؤلاء الأشخاص، من هنا يبدأ انثيال السرد الهجين لأنماط الرواية، حيث الواقعي والتأريخي يهيمنان على تحديد بنية الاستهلال، لما فيها من سرد واضح ومباشر لواقعية المجتمع العراقي المعاصر، بعد الانهيار الأمني ودخول القوات الأمريكية لبغداد، وهنا يكون القارئ أمام لوحة تسجيلية لما حدث فعليا بسبب هذا الحدث التأريخي، الذي مثل نقطة انطلاق مركزية لموجة العنف، التي جرفت المجتمع، وكانت ظاهرة الاغتيالات إحدى مظاهرها، الظاهرة التي بُني عليها اتجاه الجريمة في الرواية، إذ فرض هذا الاتجاه الكلاسيكي في الكتابة أقانيم ثابتة لا يمكن مغادرتها عند معالجة الحبكة الرئيسة؛ لذلك ترسخ مع هذا الشكل الروائي ضمن بنية (ظلال جسد) أسلوب الرواية البوليسية، بما يتضمن من قتل وغموض وبحث وتحقيق، يُذَكر أحيانا بما كتبته أجاثا كريستي في رواياتها الشهيرة، وهو ما يتحقق أعني التحول في السرد نحوَ دراما الجريمة، مع حادثة مقتل المحامي ثم تتبعه حادثة مقتل التاجر (أبو غسان)، ليكون ذلك متتالية حكائية تتكرر من خلالها بنيويا، حكاياتُ قتل متعددة تدعم الحكاية الأصلية، المتمثلة بخوف الشخصية الرئيسة في الرواية وراويها (علاء البابلي) من التصفية الجسدية، بتأثير التحولات الخطيرة التي أصابت المجتمع بفعل التدخل العسكري، وهذا ما تأطر فنيا بـ(موت/اغتيال/تصفية) شخصيات أخرى للدلالة على ذلك، كونها نماذج إنسانية واقعية يمكن رصدها في المجتمع العراقي، أو أي مجتمع غيره، ممثلا بـ(مالك المطعم المعروف بأبي مثنى والشاعر الشاب رأفت ثم طبيب العيون الدكتورعامر الفهد)، غير أن مسرودات القتل والجريمة لا تكاد تنفك عن حكاية الواقع التأريخي، التي مثلت لفيفا متواصلا مع غيرها من أشكال الحكايات التي نضج بها رحم الرواية، حينما يتوازى جنون الجسد والرغبة الأيروسية، مع ما يحدث فعليا في الشارع من عنف يومي، ليكون اعتماد السرد الروائي على الحقيقة التأريخية، إلى جنب المتخيل السردي شرطا لابد منه، وبهذا تتموضع ضمن المتخيلين السردي والتأريخي، أحداثٌ يعرفها وعاشها القارئ خلال المدة (2006- 2008)، محاولة لكسر دهشته وأفق توقعه الجمالي، والعودة به دائما، لوعي معاش ومشاعر سبق أن اختبرها، بوصفها معادلا موضوعيا يعادل بين الحقيقي والمتخيل، ما يعادل كفة السرد الواقعي والتأريخي مع السرد البوليسي وتكهنات سرد الجريمة، حيث تعددُ أسماء الضحايا يتعانق مع تعدد أسماء هوية المرأة صاحبة السر، التي لا يبقى من حقيقتها في ذاكرة ضحاياها سوى ذلك الوصف الأيروسي الأثير في ذهن الراوي (ابتسامتها ونظرتها المتوحشة بشهوة وحركة مؤخرتها).

الأنماط الروائية جميعا، تذوب فنيا بأسلوب واع متمكن ضمن شكل الرواية النرجسية، أو الرواية داخل رواية على طريقة الميتافكشن، كون الرواية تبدأ منذ سطورها الأولى بسرد ذاتي سيري، على لسان بطلها وراويها علاء البابلي.

غير أن هذه الأنماط الروائية جميعا، تذوب فنيا بأسلوب واع متمكن ضمن شكل الرواية النرجسية، أو الرواية داخل رواية على طريقة الميتافكشن، كون الرواية تبدأ منذ سطورها الأولى بسرد ذاتي سيري، على لسان بطلها وراويها علاء البابلي، الذي نعرف في ما بعد أنه يوهم القارئ بلعبة افتراء مقصودة، تتعمد سحبه من أحداث الرواية التي يقرؤها إلى أحداث الرواية التي يكتبها البابلي نفسه، وبهذا تختلط أحداث الرواية التي تُقرأ سطريا بعين القارئ الحقيقي، مع أحداث الرواية التي يسردها تذكرا بطل هذه الرواية نفسها، وحينها تتوازى في الذهنية صورتان، صورة الكاتب الحقيقي كاتب الرواية المقروءة سعد محمد رحيم، وصورة الراوي/الروائي المفترض سرديا كاتب الرواية المتخيلة لأحداث الجريمة «إن المكتوب لن يستطيعَ أبدا أن يدرأ عن نفسه تهمة التلفيق والتضليل والتحريف والخيانة، هكذا أبدأ كي لا ألعن أو أبكي بغضب، أو أقدم على ارتكاب حماقة مؤسفة بالنقر على لوحة المفاتيح» (مدخل الرواية)، وهو ما ظهر مليا في الرواية، من أن الكاتب الحقيقي يزرع متقصدا في ذهنية راويه المفترض، وعيا وشكا بخصوصية الكتابة ونوعها وطبيعتها الفنية، لا بل يجعله واعيا أيضا حتى بمصادفات الدراما وجنون افترائها المتخيل، ولعل ذلك منح الرواية سمة غير محسوبة أحيانا، مثل المصادفات الدرامية المفتعلة والمبالغة في تعظيم الأشياء والتعويل عليها، وعدم تسبيب أحداث مهمة بنيت عليها الحبكة الرئيسة، مثل تعلق الراوي بعشيقاته ومنح وقته كله لذلك، ثم لقائه المتكرر بالضحايا، وظهور الدكتورة حنين في حياته وغيرها، ولكن ما يبرر ذلك فنيا، هو الاختلاط المتعمد بين أنماط روائية مختلفة، تفترض أحداثا ومكونات وإجراءات، قد لا تتناسب مع غيرها من الأنماط الأخرى، وهو ما يوضح الكيفية النصية والمفاهيمية التي بحث عنها الاستفهام في بدء المقالة، كون وعي الكتابة السردية هنا، أعني في رواية «ظلال جسد.. ضفاف الرغبة» ينتمي لمنظومة معاصرة ما بعد حديثة، لا تؤمن بنقاء الجنس وتنطلق من هجــنة نمطية في الكتابة، كونها تبتغي التواصل مع أنماط الرواية كافة أو أغلبها، للوصول إلى نمط مختلف ومغاير للمألوف واليقيني والمتعارف عليه، عما سبق أن تمظهر في مدونتنا العربية الحديثة، نمط هو أقل ما يمكن وصفه بكونه (رواية هجينة) تعي ذاتها وتتقصد كتابة أحداثها؛ لكي تنقلب على قوانينها الأصلية التي تحددها ضمن نمط واحد نقي معروف، وهو ما أجده سيتمركز بقوة في مفاهيم درجة وعي الكتابة الروائية العربية وإدراكها الجمالي في السنين المقبلة.

* ناقد وأكاديمي عراقي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول حامد فاضل:

    تحليل رائع لرواية أخينا الممرحوم سعد محمد رحيم.. تقبل أعجابي

    1. يقول د.خالد علي ياس:

      شكرا جزيلا أستاذ من ذوقك

  2. يقول زينب رافد:

    لم اقرأ نصوصاً نقدية تجعلني لا اشعر بالملل كنصوصك سلمت اناملك استاذي العزيز

    1. يقول د.خالد علي ياس:

      شكرا جزيلا مدام من ذوقك

إشترك في قائمتنا البريدية