حين تشتغل الطواحين بمياه إيباك وأحمدي نجاد… سواء بسواء!

حجم الخط
0

حين تشتغل الطواحين بمياه إيباك وأحمدي نجاد… سواء بسواء!

صبحي حديديحين تشتغل الطواحين بمياه إيباك وأحمدي نجاد… سواء بسواء! النشيد الوطني للدولة العبرية غاب السنة الماضية عن المؤتمر السياسي السنوي الذي تعقده لجنة الشؤون العامة الأمريكية ـ الإسرائيلية ، أو الـ AIPAC، لأسباب قاهرة والحقّ يُقال (انكشاف أمر مواطنَيْن أمريكيين من كبار الموظفين في الإدارة، كانا جاسوسين لإسرائيل). ورغم أنّ تلك الاسباب ما تزال قائمة، إذ تبدأ محاكمة ستيف روزن وكيث وايزمان الشهر القادم، فإنّ نشيد الـ هاتكفا تعالي ودوّي في افتتاح مؤتمر هذا العام، وكأنّ شيئاً لم يكن، أو كأنّ مؤتمر 2005 كان الاستثناء فقط. وأمّا في ما يخصّ السياسات، موضوع المؤتمر في نهاية المطاف، فإنّ كبار الخطباء (الذين يحدث أنّ بعضهم من كبار رجالات الإدارة في آن: من نائب الرئيس ديك شيني، إلي المندوب الدائم في مجلس الأمن جون بولتون…)، وزعماء الدولة العبرية (بنيامين نتنياهو، إيهود أولمرت، وعمير بيرتز…)، وأقطاب المحافظين القدماء والمحافظين الجدد (نوت غنغريش، ريشارد بيرل…)، تباروا في أمر واحد وحيد: تحذير الأمم من حماس ، وتخويف البشرية من إيران.وأمّا جوهر التحذير والتخويف فهو، بقدرة التلفيق الفريدة التي يتحلي بها أولئك الخطباء المفوّهون، متماثل متشابه متطابق: الإرهاب مع حماس ، والنازية علي يد إيران! خذوا، علي سبيل المثال، سوزان كولينز، الجمهورية وعضو الكونغرس عن ولاية ماين، التي حثّت الإنسانية علي الاختيار بين عالم شمبرلين أو عالم شرشل ، في إشارة إلي رئيسَي وزراء بريطانيا نيفيل شمبرلين (الذي استرضي النازية) وونستون شرشل (الذي حارب هتلر). أو خذوا، في مثال آخر، المدير التنفيذي لـ إيباك ، الذي استبق خطبته بعرض شرائط وثائقية تقارن بين هتلر والرئيس الإيراني محمود أحمدي نجاد، قبل أن يقول بيقين مذهل: إنّ التوازيات بين 5 آذار (مارس) 1933، و5 آذار (مارس) 2006 صاعقة في تشابهها، مخيفة في عواقبها .والحال أننا لا ينبغي أن ننتظر ما هو ألطف من هذه المقارنة، أو أخفّ من تلك البلاغة، أو أقلّ من هذا الحشد، في محفل يعكس ذروة النفوذ اليهودي ـ الصهيوني في الولايات المتحدة. وما يقلق، استطراداً، ليس أن يتباري الخطباء في خطب ودّ الدولة العبرية وتأثيم حماس وإيران، بل أن تصبّ القيادة الإيرانية ذاتها الكثير من الزيت علي هذه النيران، وتنقل فيوض المياه التي تدير طواحينها… الدائرة أصلاً في ما يشبه السعار والهستيريا! هنا ثلاثة أمثلة: ـ في 16 شباط (فبراير) الماضي نشرت روز ، الصحيفة الإيرانية الإصلاحية علي الإنترنيت، تقريراً مثيراً يفيد بأنّ محسن غرافيان، وهو تلميذ آية الله مصباح يزدي الذي يُعتبر الأبّ الروحي والمرشد الديني للرئيس الإيراني أحمدي نجاد، تحدّث للمرّة الأولي عن فتوي تجيز استخدام السلاح النووي حسب الشريعة الإسلامية، وذلك علي نقيض الآراء السابقة التي كانت تعتبرها مخالفة للشريعة الإسلامية لأنها سلاح يفتك بالبشر جماعياً وبلا تمييز. ولم تمض بضعة أيام حتي نقلت وكالة الانباء الإيرانية هذه التصريحات، ممّا عني أنها باتت جزءاً من السياسة الرسمية العليا للدولة.ـ وفي 11 من الشهر ذاته ألقي أحمدي نجاد خطبة من التلفزة الإيرانية، جاء فيها: حين نعترض علي الأوروبيين (بخصوص الرسوم الكاريكاتورية المسيئة للنبيّ محمد) يقولون: لدينا حرّية تعبير في بلداننا. إنهم يكذبون حين يقولون إن لديهم حرية. إنهم رهائن في أيدي الصهاينة. وشعوب أوروبا وأمريكا هي التي يجب أن تدفع الثمن . ثمّ ختم بهذا التهديد: يجب أن تحمدوا الله لأنّ شعبنا تصرّف معكم بشكل نبيل حتي الآن، وكان صبوراً عليكم. فلا تجعلونا نفقد صبرنا. الشعب استيقظ. عالم الإسلام استيقظ !ـ وفي الأوّل من شباط، خلال مؤتمر صحافي نقلته التلفزة الإيرانية، خاطب علي لاريجاني، الأمين العام للمجلس الأعلي للأمن القومي الإيراني، حكومات أمريكا والغرب كما يلي: نوصيكم أن تتعلموا الدرس من التاريخ. لا تكرروا ما ارتكبتموه في الماضي وندمتم عليه. الشعب الإيراني متحمس وشجاع. لا تعبثوا بالكبرياء القومية للإيرانيين، لأنكم ستواجهون ردّاً حازماً. الأشياء سوف تتغيّر بالنسبة إليكم .هذه ثلاثة نماذج، خلال نصف شهر فقط، تعكس المناخ السياسي الذي يسود إيران منذ انتخاب أحمدي نجاد رئيساً في أواخر حزيران (يونيو) السنة الماضية، وهو الحدث المباغت الذي شكّل انعطافة حاسمة ومفاجئة، حتي أنّ البعض أطلق عليه صفة الثورة الإسلامية الثانية . غير أنّ الشعبوية هي الصفة الأفضل لوصف الخطاب السياسي والفكري للرئيس الإيراني، الذي يمزج بين التعبئة الدينية ودغدغة المشاعر القومية والتحريض العاطفي ضدّ الغرب والولايات المتحدة، اعتماداً علي ثلاثة محاور: توطيد النهج المحافظ للثورة الإسلامية تحت ستار إحياء تراث الإمام الخميني، وتضخيم النزاع حول تخصيب اليورانيوم وتحويله إلي قضية قومية بامتياز، وأخيراً الطعن في صحّة الهولوكوست والدعوة إلي محو إسرائيل من الوجود.ومن الواضح أنّ نجاد يستغلّ قضية مشروعة من حيث المبدأ، هي حقّ إيران في حيازة التكنولوجيا النووية المدنية، أو حتي حقّها في تخصيب اليورانيوم لأسباب عسكرية بالنظر إلي أنّ الدولة العبرية تمتلك القنبلة النووية لتوّها، ولا أحد في المجتمع الدولي يتفوّه بكلمة اعتراض واحدة، كما أنّ وكالة الطاقة النووية لم تتجاسر حتي الآن علي تفتيش المنشآت النووية الإسرائيلية. واستطراداً، يتكيء أحمدي نجاد علي هذه النقطة، ثمّ يضيف إليها معاناة الشعب الفلسطيني علي يد جيش الإحتلال الإسرائيلي، خصوصاً تلك السياسات الاشدّ وحشية في عهد رئيس الوزراء أرييل شارون، لكي يطالب بمحو إسرائيل من الخريطة، والتشكيك بالهولوكوست الذي يعدّه السبب في الحظوة الخاصة التي تتمتع بها إسرائيل في الغرب وأمريكا. لكنّ خطاب أحمدي نجاد في المحورين الأوّل والثاني، أي إحياء افكار الثورة الإسلامية ودغدغة الشعور القومي الإيراني، يثير القلق بقدر ما يبدو متهافتاً بالمعني السياسي والفكري. ذلك لأنه يعتبر إحياء أفكار الثورة الإسلامية بمثابة استمرار للنهضة التي قادها النبيّ محمد، وأنّ جميع الأهداف السياسية والإقتصادية والثقافية يجب أن تخدم تجسيد المُثُل الإسلامية، وإلا فإنّ المجتمع الإيراني سوف يتفكك وينهار تدريجياً. وفي خطاب ألقاه أواسط تشرين الثاني (نوفمبر) الماضي أمام عشرات الآلاف، قال أحمدي نجاد: إنّ من واجبنا إعادة توجيه الشعب إلي تلك المُثُل المجيدة، وأنّ نقود الخطي نحو تأسيس مجتمع إسلاميّ قويّ متقدّم. ينبغي أن تنبثق إيران كبلدّ جبّار وقوّة عظمي .هذا في واجهة الحكم، أي في المواقف المعلنة علي منابر الخطابة وسط الحشود الهادرة، ومن شاشات التلفزة أمام الملايين داخل إيران وخارجها. أمّا في الكواليس فإنّ صعود أحمدي نجاد يمثّل صراعاً ضارياً علي السلطة الفعلية ليس بين المحافظين والإصلاحيين كما كانت الحال في ولايتَي الرئيس السابق محمد خاتمي، بل بين أجنحة الفئات المحافظة ذاتها أساساً، وفي أعلي هرم السلطة. ومن المعروف أنّ الرئيس الإيراني هزم منافسه المحافظ والرئيس الأسبق علي أكبر هاشمي رفسنجاني في جولة ثانية بنسبة 62%، وأنّ نسبة المشاركة بلغت 60%، ممّا دلّ علي أنّ الإصلاحيين قاطعوا الإنتخابات عملياً. وهكذا انتقل مركز القوّة من المجموعة الدينية ـ البيروقراطية المحافظة التي مثّلها آيات الله التلقيديون ممّن خلفوا الإمام الخميني في مختلف مراكز القرار، إلي المجموعة الدينية ـ العسكرية المتشددة كما يمثلها تحالف الجيل الثاني من آيات الله (آية الله مصباح يزدي بصفة خاصة)، والحرس الجمهوري، وأجهزة الإستخبارات المعروفة باسم الـ باسجي .أوضح ردود الأفعال الإيديولوجية من جانب الإصلاحيين جاءت علي لسان الرئيس السابق خاتمي نفسه، حين أعلن أنّ متشدّدي إيران يطمحون إلي محاكاة اسامة بن لادن ، وهم بذلك يعطون أفضل الذرائع للأعداء كي يتهجموا علي الإسلام وإيران ؛ وأنهم يعتقدون أنّ الولاء للديمقراطية والحرية والتقدم تلحق الضرر بالبلد الوحيد الثوري في العالم الإسلامي (أي إيران)، ولهذا نراهم ينافسون الطالبان في الدعوة إلي العنف وارتكاب جرائم مناهضة معادية للدين .ومن جانب آخر، إذا كان المرشد الأعلي للثورة الإسلامية علي خامنئي قد تظاهر بالحرص علي التوازن بين فريقَي المحافظين والإصلاحيين، واعتبرهما جناحين لا بدّ منهما لكي يحلّق طائر الثورة الإسلامية ، فإنه انحاز منذ البدء إلي الفريق الأوّل، بل رجّح كفّة المجموعة الدينية ـ العسكرية المتشددة كما مثّلها أحمدي نجاد علي المجموعة الدينية ـ البيروقراطية المحافظة التي مثلها رفسنجاني. لكنّ العديد من المؤشرات اللاحقة تؤكد أنّ المجموعة الرابحة راحت تبسط نفوذها أكثر فأكثر علي نحو أخذ يطال بعض شبكات السلطة التابعة مباشرة لخامنئي، وأخذ يهّدد بانحسار بعض نفوذه. وليس الخلاف العلني الذي اندلع حول تحديد موعد عيد الفطر الأخير، بين آيات الله التابعين لخامنئي وثلاثة من آيات الله المنــضــوين في فريق أحمدي نجاد، سوي صورة المظهـــر علي ما أخذ يحتدم في الباطن من خلافات عميقة.وليس مدهشاً أن يكون الإحتلال الأنغلو ـ أمريكي للعراق، وسياسات الولايات المتحدة والدولة العبرية إجمالاً، هي بين أفضل العوامل المساعدة علي ترسيخ جاذبية خطاب أحمدي نجاد الشعبوي التحريضي في أعين الشارع الإيراني العريض، بخصوص المحاور الرئيسية الثلاثة التي يقوم عليها خطابه السياسي. وحين قامت وزيرة الخارجية الامريكية كوندوليزا رايس بجولة في منطقة الشرق الأوسط أواخر الشهر الماضي، وكان هدفها الاساسي محاصرة فوز حماس بغالبية ساحقة في المجلس التشريعي الفلسطيني وتشديد الضغوط علي إيران ومحاولة عزلها في المحيط الإسلامي، فإنها في الواقع كانت تصبّ المياه في طاحونة خطاب أحمدي نجاد قبل أن تلحق به أيّ أذي! السفير الأمريكي في العراق، زلماي خليل زاد، ساهم بدوره في خدمة أحمدي نجاد حين لوّح بأنّ واشنطن لن تقبل مشاركة أشخاص طائفيين في الحكومة العراقية، أي أشخاص شيعة في عبارة أوضح، فردّ عليه رئيس الوزراء العراقي المكلّف، إبراهيم الجعفري، بأنّ العراقيين لن يقبلوا تدخلا في شؤونهم …ولكي تتضح معادلة الضخّ المتبادل للمياه التي تسيّر الطواحين، للمرء أن يعود بالذاكرة إلي أيار (مايو) 2004، حين ألقي الرئيس الأمريكي جورج بوش خطبة أمام مؤتمر الـ إيباك السنوي، فقال: أنتم تقومون بعمل هامّ، وأرجو أنكم تدركون هذا. ففي واشنطن وخارجها، أنتم تلفتون الانتباه إلي التحديات الأمنية الكبري في عصرنا. أنتم تثقفون أعضاء الكونغرس والشعب الأمريكي حول الأخطار المتزايدة لانتشار الأسلحة. وفي قرن جديد محفوف بالمخاطر، يصبح عملكم أكثر حيوية من أيّ يوم مضي ! الدولة العبرية لم تكن غائبة عن فقرة الامتنان هذه تحديداً، فقال بوش: إنّ لدي أمّتنا، ولدي أمّة إسرائيل، الكثير المشترك. كلانا أمّة فتيّة نسبياً، ولدنا في غمرة الصراع والتضحية. كلانا تأسس علي يد مهاجرين فرّوا من اضطهاد ديني في بلدان أخري. وكلانا نهض علي عقائد جوهرية محددة، مفادها أنّ الله يسهر علي شؤون الناس، ويحفظ قيمة الحياة ! ألا تشغّل هذه البلاغة طواحين أحمدي نجاد؟ وبالتالي، ألا يتبادل الفريقان تسيير المياه إلي طواحين الآخر، والفارق الوحيد ربما يظلّ سؤالاً كمّياً وليس نوعياً: مَن يضخّ أكثر في طواحين الآخر؟ہ كاتب وباحث سوري يقيم في باريس9

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية